صولات محمد شكري وجولاته بمنطقة الممنوع

محمد شكري عرَّى بسيرته الذاتية في روايته الخبز الحافي نفسه بقدر ما عرى نفس الإنسان العربي المسحوق بظروفه التاريخية والسياسية والاجتماعية. إبراهيم مشارة يسلط الضوء على بريق الغبار حول سيرة محمد شكري الذاتية. شكري الذي قال "أنا أكلت من القمامة ونمت في الشارع فلماذا تنتظرون مني أن أكتب عن الفراشات".

By إبراهيم مشارة 

في تراثنا الأدبي خاصة والفكري عامة نعثر على أفلاذ من السيرة الذاتية منثورة هنا وهناك كتبها أو أملاها بعض الأعلام، كابن سينا الذي أملى شيئا من سيرته الذاتية في أواخر عمره لا تتعدى صفحات قليلة استعان بها ابن أبي أصيبعة في ترجمته لهذا العلم في مصنفه الشهير "عيون الأنباء في طبقات الأطباء".

لقد خرق ابن سينا شيئا من المألوف وباح قليلا ببعض أسرار حياته في احتشام وتحفظ فهذا الرجل الذي عرف عنه الجد والنباهة والسهر من أجل العلم كان يتفرغ لشيء من اللهو ويستعين على السهر والتعب بشيء من الشراب كما باح في نصه عن بعض خبايا نفسه وهو يعرضها علينا في تلك الصفحات القليلة.

البوح في فن السيرة الذاتية

لاشك أن فن السيرة الذاتية يعد فنا رافدا للسرد عامة بنكهة ذاتية، إنه مرآة تجلو نفس الكاتب أو الشاعر من غير أصباغ -أو هكذا يفترض- تتسم بالصدق والصراحة والشفافية.

خاض في هذا الفن طه حسين في "الأيام" والعقاد في "أنا" وأحمد أمين في "حياتي"، وهم أعلام هذا الفن في النصف الأول من القرن المنصرم، وسلطت تلك السير الضوء على الجوانب التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية لمصر في تلك الحقبة.

 

محمد شكري في حانة فندق ريتز بطنجة، حيث اعتاد الجلوس مع أصدقائه ومنهم الكاتب الأميركي بول بولز - المغرب.
رواية "الخبز الحافي" التي أدخلت مؤلفها محمد شكري إلى المجد الإبداعي (في الصورة محمد شكري في حانة فندق ريتز بطنجة، حيث اعتاد الجلوس مع أصدقائه ومنهم الكاتب الأميركي بول بولز - المغرب): كُتِبَت الرواية باللغة العربية سنة 1972 وقام صديقه بول بولز الكاتب الأميركي الذي كان بدوره يقيم في طنجة، بترجمتها إلى الانجليزية سنة 1973، ثم ترجمها إلى الفرنسية مواطنه الطاهر بنجلون سنة 1981 ولم تنشر باللغة العربية حتى سنة 1982، وقد تمت ترجمتها إلى 38 لغة في العالم ضمنها الألمانية. لطالما شكلت عودة الحديث عن سيرة شكري وأعماله الإبداعية مناسبة لتكريمه من قبل أصدقائه ومؤسسات ثقافية ولكن يرافقها أيضا جدل حول أعماله وأسلوبه في تناول قضايا تعد من المحرمات في المجتمع المغربي.

 

لكن مما يؤخذ على تلك السير الطابع الملحمي والميل إلى التمجيد وروح التعالي، إذ يقدم الكاتب نفسه روحا متعطشة للمعرفة تواقة إلى الثقافة تكدح في سبيل تحصيلها متحملة قيود الخصاصة والوضع الاجتماعي الذي يميزه الحرمان.

وهو أمر لا ينكر ملحمة حياتية تبدأ ذرة وتنتهي جبلا عملاقا يطفو على سطح حياتنا الثقافية والفكرية، مع أن الذات الإنسانية لا تخلو من شهوات الحس وأمراض النفس كالأثرة والحسد والحقد والغيرة والأنانية والطمع، وهذه الأهواء والنوازع البشرية تشكل الجزء الخفي من كل نفس في صراعها من أجل البروز واحتلال مساحة في حيز الوجود الفعلي الحياتي.

حاول حنا مينه في" المستنقع" و"بقايا صور" وعيسى الناعوري في "الشريط الأسود" -الذي قدم له شوقي ضيف- أن يمضي قدما في تعرية النفس وتناول ممنوعات البوح ومتناقضات النفس البشرية، لكن تظل تلك الكتابات تحوم حول الممنوع ولا ترد، تقترب من حقل اللامفكر فيه ولكن لا تقتحمه.

هذا النقص في التجربة الكتابية في فن السيرة الذاتية واختفاء شرارة الصدام ورج القارئ  بجدليات ومفارقة النفس البشرية في صراعها بين الخير والشر والمثل والحس وحجبه والأخلاق - دفع هذا توفيق الحكيم في آخر عمره إلى أن يكتب شيئا من هذا البوح في شكل إجابات على أسئلة طرحها عليه نبيل مغربي ونشرت تحت عنوان "خريف العمر" في مجلة الوطن العربي في أواخر الثمانينيات.

شكري في بيته سنة 1992 في طنجة، مع خادمته فتحية خياطي وصديقة سويسرية - المغرب.
تابوهات اجتماعية تدخل في إطار "المقدس" (في الصورة محمد شكري في بيته سنة 1992 في طنجة، مع خادمته فتحية خياطي وصديقة سويسرية - المغرب): الناقد المغربي بوشعب الساوري يرى بأن المنطق الذي قاد محمد شكري لكتابة "الخبز الحافي" -التي ترجمت إلى ثمانية وثلاثين لغة- هو تطرقها لتابوهات اجتماعية تدخل في إطار "المقدس"، وهو ما يفسر المنع الذي تعرضت له. وهذا ما كان له حسب بوشعيب الساوري آثارا إيجابية على رواية "الخبز الحافي"، التي لقيت رواجا كبيرا ومقروئية كبيرة في العالم العربي، كانت في الغالب بسبب المنع لكون قوته نابعة من قوة خلخلته المجتمع. وفي المقابل، يرى الناقد بوشعيب بأن ما يجده القارئ في رواية "الخبز الحافي" نابع من تجربة شكري الأدبية والإنسانية المختلفة في سياقها الثقافي والاجتماعي عن الوقت الحاضر. فعلى الرغم من مساحة الحرية التي أصبح ينعم بها الإبداع في المغرب، إلا أنه ما تزال هناك حدود ترسم الإبداع.. وبالأخص فيما يتعلق بالجانب الأخلاقي والعقائدي والديني، والدليل على ذلك هو ردود الأفعال التي تثار بين الفينة والأخرى، حول بعض الأعمال السينمائية.

وقد أحدثت ضجة كبيرة حين صدروها بسبب تناولها علاقة الكاتب بالمرأة ومغامراته في القاهرة وباريس أيام شبابه وطلبه للمعرفة والتحصيل العلمي، واتهمه كثيرون بخرم أبجديات المروة وثلم القيم الأخلاقية ورحب الكثيرون بهذا البوح، وكأن الحكيم تطهر بالاعتراف وقال شيئا -كان يتعبه ويضجره- رماه في دهاليز التناسي والإخفاء زمنا غير يسير.

ربما تكون الروايات حقلا للبوح بشكل غير مباشر، وذلك ما يجعل النقاد يتتبعون شخصية الكاتب المتقمصة شخصية روائية ما،  كما في الثلاثية في شخصية كمال بالنسبة لنجيب محفوظ وفي مثل رواية الحي اللاتيني لسهيل إدريس وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح.

في الغرب -بسبب الثورات الفكرية والنزعة الإنسية وفلسفة تمجيد الذات وحرياتها- كان البوح في السيرة الذاتية أشد سطوعا وتوهجا ومجاهرة وتعرية لكل المكبوتات وتجلية لكل خفي، خاصة مع روسو في اعترافاته وجان جينيه رائد الأدب الشطاري في الغرب في رائعته "سيدتنا صاحبة الزهور" والتي اعترف فيها باللصوصية والإدمان والكذب والمثلية، حتى أن سارتر وصفه بالقديس والعبقري والشهيد واللص والمثلي والكذاب.

محمد شكري - رائد الأدب الشطاري [الصعلوكي]

لاشك أن محمد شكري هو رائد الأدب الشطاري في أدبنا، وتجربته الكتابية والحياتية  وطريقته في السرد المتسمة بالعفوية والتلقائية والتحرر من كل تقنية ومهارة فنية تظل علامة فارقة في الأدب المغاربي خاصة والعربي عامة، وقد سرد سيرته الذاتية في ثلاثيته"الخبز الحافي" و"زمن الأخطاء" و"وجوه".

عاش شكري حياة صعبة فرضت عليه الظروف الانحراف بالمفهوم الأنطولوجي لا الأخلاقي.

فمن أب أناني كسول مادي غير مهتم بتربية أولاده وغير مقدر لزوجته يبحث فقط عن الدراهم وجلسات الشاي ونزواته الخاصة  إلى حد دق عنق ابنه الصغير الذي لم يتركه ينام في القيلولة من فرط البكاء فتركه جثة هامدة.

وقد أثر هذا الحادث في شكري بل زلزله فكريا ونفسيا وكتب جزء من سيرته الذاتية "الخبز الحافي" أمام قبر أخيه الصغير ، وأم مجتهدة صابرة مغلوبة على أمرها لا تستطيع أن تفعل شيئا فالمرأة في الشرق عامة في ذلك الوقت ليست سوى آلة للإنجاب وشغالة خرساء بكماء، لا ترى، لا تسمع، لا تتكلم هذا هو الغالب.

وقد وثق ذلك فنياً نجيب محفوظ في رائعته "الثلاثية وخلد معاناة أمينة وزوجها الدون جوان أحمد عبد الجواد في تلك الروايات الثلاث "قصر الشوق"،"السكرية" ، "بين القصرين" الكبيرة تاريخيا وفنيا.

اضطر شكري إلى العمل في الصبا والمغرب سياسيا تحت الحماية الفرنسية - دفع به والده لا إلى المدرسة ليتعلم بل ليعمل في المقهى في غضاضة الصبا ونضارة العمر حيث تعلم التدخين والتحشيش بطريق الصدفة أولا والفضول ثانيا والتعود أخيرا، واستمر كادحا نهاره وليله بدراهم معدودة لتلبية حاجيات الأسرة ونزوات والده في أغلب الأحيان حيث كان يأخذ الفلوس بالغصب.

إبراهيم مشارة - كاتب جزائري.
لقنبلة التي فجرها محمد شكري - يكتب إبراهيم مشارة: في الغرب ...كان البوح في السيرة الذاتية أشد ... تعرية لكل المكبوتات ... . القنبلة التي فجرها شكري في سيرته [الخبز الحافي] وخرق بها كافة الممنوعات والطابوهات وتماهت فيها السيرة الذاتية العربية مع السيرة الذاتية الإنسانية عامة والغربية خاصة هي صولاته وجولاته في منطقة الممنوع ومستحيل التفكير فيه ومستحيل البوح به، حيث تعرض لتجاربه المتعية ونزواته بصراحة لا نظير لها إلى حد أن الألفاظ النابية تصفع القارئ صفعا. فالحقل الدلالي والمعجمي لعالم الليل والهامش والأقبية والمقاهي والحانات يغص بالألفاظ التي تكاد تزهق روح القارئ غير المتعود على هذا النوع من البوح. لا مرية في أن شكري لا يقصد الدونجوانية ولا الدعاية ولا الإخلال بالآداب العامة فهو لا يمارس أدبا مكشوفا بل أدبا إنسانيا رفيعا، ليس المقصود تمجيد الذكورة والفحولة وصولاتها وجولاتها، وليس شكري هو الدون جوان بل هو الإنسان المسحوق غير المتعلم الكادح الذي لم يجد طريقه أو أجبرته الظروف على أن يعيش حياة الهامش ويمارس الشطارة والفهلوة والفتوة ويقوم بكافة الأفعال التي تتصف بالقبيحة من الناحية الأخلاقية.

صولات وجولات في منطقة الممنوع

القنبلة التي فجرها شكري في سيرته وخرق بها كافة الممنوعات والطابوهات وتماهت السيرة الذاتية العربية مع السيرة الذاتية الإنسانية عامة والغربية خاصة هي صولاته وجولاته في منطقة الممنوع ومستحيل التفكير فيه ومستحيل البوح به، حيث تعرض لتجاربه  المتعية ونزواته بصراحة لا نظير لها إلى حد أن الألفاظ النابية تصفع القارئ صفعا. فالحقل الدلالي والمعجمي لعالم الليل والهامش والأقبية والمقاهي والحانات يغص بالألفاظ التي تكاد تزهق روح القارئ غير المتعود على هذا النوع من البوح.

لا مرية في أن شكري لا يقصد الدونجوانية ولا الدعاية ولا الإخلال بالآداب العامة فهو لا يمارس أدبا مكشوفا بل أدبا إنسانيا رفيعا، ليس المقصود تمجيد الذكورة والفحولة وصولاتها وجولاتها، وليس شكري هو الدون جوان بل هو الإنسان المسحوق غير المتعلم الكادح الذي لم يجد طريقه أو أجبرته الظروف على أن يعيش حياة الهامش ويمارس الشطارة والفهلوة والفتوة ويقوم بكافة الأفعال التي تتصف بالقبيحة من الناحية الأخلاقية، ومن السهل إدانة هذا النوع من البوح لكن  بالتأكيد لن ينفع بذلك لا الأخلاق ولا الحياة ولا الأدب في شيء.

سياق سردي متسق لعالم الشطارة ولذات إنسانية مطحونة بظروفها تتلمس طريقها في عالم هو أشبه بالغابة حيث البقاء للمخلب والناب، عالم يعيش فيه أخلاط من المسحوقين كالكادح واللص والبغي والطفل الذي يسلم طفولته إلى الرصيف وإلى العمل الشاق جلبا للقوت والمستغل والإقطاعي والمتعامل مع المستعمر - عالم القاع حيث اللون كابي والحياة في ذاتها ليست سوى المستنقع بعينه.

حياة صعبة كادحة

حياة صعبة كادحة من غير تعلم ولا رعاية أبوية ولا اهتمام حكومي بالطفولة واستغلالها (والمغرب كان تحت الحماية) وفقر مدقع وحاجات الأسرة المتعددة وإهمال أبوي لا نظير له ووسط منحرف قاموسه الحياتي يتشكل من الشطارة، المتع الحسية، المثلية، السجون، الأقبية ،السجائر، الحشيش ،الرصيف، الصفيح، بنات الليل، المقاهي، الحانات، الفنادق، الشرطة، الغرامة، الدم، العنف والبذاءة.

هذا هو عالم الشطارة والعالم الهامشي وهامش الحياة والمنطقة المدانة سياسيا وأخلاقيا وحتى دينيا. وبقدر ما أدينت تلك الحياة وهمش أصحابها شعت وتوهجت على يدي شكري  في رائعته "الخبز الحافي" والعتبة الأولى للرواية -وهي العنوان- تحيل على الخصاصة والإملاق فالخبز حافيا صار صعبا في زمن لا يرحم حيث لا حماية إلا الإقطاع أو الشطارة.

طنجة التي تبكي على من لم يرها كما يتردد دائما في المأثورات الأدبية والسياحية، طنجة شكري المدينة المفتوحة على البحر المتوسط والمواجهة للأندلس تاريخيا وشبه الجزيرة الأيبيرية حضاريا وجغرافيا، مدينة بول بولز وتينسي وليامز وجان جينيه وغيرهم.

 

قبر محمد شكري في مقبرة مرشان، بمدينة طنجة - المغرب.
لعنة "الخبز الحافي" تطارد محمد شكري حتى في قبره (في الصورة قبر محمد شكري في مقبرة مرشان، بمدينة طنجة - المغرب): حتى بعد سنوات كثيرة على رحيل الكاتب المغربي محمد شكري يرافقه جدل تصل أصداؤه إلى أسرته، بسبب تباين الآراء إزاء أعماله وأسلوبه في تناول قضايا تعد من المحرمات في المجتمع المغربي.وسيرته الذاتية في "الخبز الحافي" ما تزال حية ويعود الحديث في المغرب عن محمد شكري صاحب رواية "الخبز الحافي"، التي أثارت ضجة في الأوساط الثقافية المغربية بعد نشرها بالعربية عام 1982. "كان هناك إجماع على منعها في المغرب وفي عدد من الدول العربية، مباشرة بعد نشرها باللغة العربية، وهذا ما أعطى قيمة كبيرة للسيرة الذاتية الروائية"، كما يقول صديق محمد شكري الإعلامي عبد اللطيف بن يحيى في حديثه لدويتشه فيله.

 

طنجة العربية والأوروبية الفاتنة بأزقتها وحاراتها المتثائبة آخر الليل، والتي تستر جسدها بغلالة رقيقة من دواوين الشعر وتشيعها إلى مرقدها بسمات الصبايا وقهقهات السكارى ورائحة التبغ والكحول ولوحات غير مكتملة لرسامين في ورشاتهم أو وتريات تعانق الروح وتغازل الجسارة الملتهبة في عمق كل سامر والحرية التي تبسط بساطها الأحمر لكل عاشق أو متمرد أو ثائر أو عبقري أو مبدع أو منحرف.

رائحة الليل، رائحة الجو المتخمة برطوبة البحر والمشبعة برائحة اليود والشمس الدافئة التي تغزل بها ماتيس في لوحة خالدة بالرغم من الروح الكولونيالية الكامنة في اللوحة، وما يقال عن حياة بعض الكتاب الغربيين بها ونظرتهم الاستعلائية ورغبتهم في أن تبقى طنجة فراديس للمتعة والبهجة والأنس والدعة والكسل.

والنسوة الملتفات في عباءاتهن أو ملاحفهن وجلبة الباعة ورواد المتعة وطلاب المغامرة وعشاق الحرف.

حري بطنجة إذاً أن تبكي على من لم يرها. لقد غدت ملهمة الشعراء والكتاب والفلاسفة والفنانين وغدا كل شارع ومقهى وملهى وحانة تحكي قصة أديب غربي أو شرقي عاش ردحا من الزمن فيها.

مخطوطة "الخبز الحافي"

صورة الغلاف العربي لكتاب الخبز الحافي - الصورة: بواسطة دار الساقي للطباعة والنشر - 1 وFair use وhttps://ar.wikipedia.org/w/index.php?curid=1137948
في الصورة الغلاف العربي لكتاب الخبز الحافي: من السهل إدانة هذا النوع من البوح لكن بالتأكيد لن ينفع بذلك لا الأخلاق ولا الحياة ولا الأدب في شيء. وقد كان محمد شكري يتوجس في نفسه خيفة من صراحتها ومن آثارها على سمعة العائلة خاصة أخواته البنات وما قد يجره الاعتراف من أذى إلى سمعة العائلة، ولكن تحمس النقاد لها وانتشار الرواية انتشار النار في الهشيم مكن لشكري مكان رائدة في الأدب المغربي وشهرة عربية يحسد عليها بالرغم من الصدمة التي أحدثتها واعتراض الكثيرين على صراحتها الخادشة للآداب العامة، كما يكتب إبراهيم مشارة.

ومن حسن حظ شكري أن يطلع على مخطوطة "الخبز الحافي" ويتحمس لها ويقدر قيمتها الفنية صديقه الكاتب الأمريكي المقيم بطنجة بول بولز ويساعد على نشرها في ألمانيا  عام 1982 بعد عشر سنوات من كتابتها ووضعها في الدرج.

وقد كان شكري يتوجس في نفسه خيفة من صراحتها ومن آثارها على سمعة العائلة خاصة أخواته البنات وما قد يجره الاعتراف من أذى إلى سمعة العائلة، ولكن تحمس النقاد لها وانتشار الرواية انتشار النار في الهشيم مكن لشكري مكان رائدة في الأدب المغربي وشهرة عربية يحسد عليها بالرغم من الصدمة التي أحدثتها واعتراض الكثيرين على صراحتها الخادشة للآداب العامة.

وقام الطاهر بن جلون بترجمة الرواية إلى الفرنسية فعرف بشكري في الغرب حيث لاقت اهتماما كبيرا . ومع هذه المكانة لشكري و التقدير العربي والاحتفاء من النقاد والقراء ظلت ممنوعة من التداول تُتداوَل سرا وتُهرَّب كما تهرب الممنوعات، لكن الإبداع مصيره الذيوع والقوة الإنسانية والفنية الموجودة فيها تتغلب على كل رقيب.

يشكل الجزء الثاني "زمن الأخطاء" تتمة لهذا البوح ولهذا السرد العفوي الأخاذ المتخلص من كل تقنية والمنفلت من كل إكراهات تقنية، هذا السرد الغض غضاضة الحياة وطرواة اللحظة المشبع بكل رائحة.

وإذا كانت الخبز الحافي تحيل على الجحيم فإن زمن الأخطاء تحيل على المطهر، ففي هذا الجزء يستكمل شكري سرد مسيرة حياته أو ملحمة حياته حيث يصر على التعلم وهو في سن المراهقة مع أطفال صغار حتى صار مبعثا لضحكهم مع الاستمرار في الكدح من أجل القوت وممارسة الشقاوة التي بدأها صغيرا وصار فتوة حقيقة - أليس الوشم علامتها؟

حين عانق شكري الحرف لم يعانق مجرد الأبجدية ومحاولة فك شفرة القراءة لرسائل بسيطة أو كتابة اسمه لكن توغل في عالم الأدب غربيه وشرقيه، كلاسيكيه وحديثه وتعدى ذلك إلى تعلم الإسبانية للاطلاع على الثقافة الغربية عبر إحدى لغاتها الحية.

الصراع، التنازع في نفس شكري بين نوازعه البشرية ومثله العليا، بين شرطه الحياتي وأحلامه الوردية، بين الأمل والإحباط، بين الحياة كممارسة بكل جاذبيتها وعنفوانها وصراعها الطبقي الرهيب وممارسة على الورق عبر الكتابة ورد الاعتبار للمسحوقين وللتاريخ الشفوي المضاد - تلك الحيلة التي أتقنها شكري فخلد سيرته في رائعة إنسانية وفنية حقيقة بالخلود وكسا وحل الحياة ببريق الإبداع.

 

 

إبراهيم مشارة

حقوق النشر: إبراهيم مشارة / موقع قنطرة 2021

ar.Qantara.de

 

هذه المقالة تتناول كاتبا إشكاليا هو محمد شكري الذي عرى بسيرته الذاتية في الخبز الحافي نفسه بقدر ما عرى نفس الإنسان العربي المسحوق بظروفه التاريخية والسياسية والاجتماعية. فن السيرة الذاتية فن عريق في الأدب العربي لكن جرأة شكري وتناوله المنطقة الممنوعة بل واقتحامها بكل جرأة وشجاعة وصراحة - ذاك مايعطيها مصداقيتها وقيمتها الفنية والتاريخية والاجتماعية. الألفاظ النابية التي تصفع القارئ صفعا صارت حقلا دلاليا للعالم المهمش، العالم السفلي، عالم الصفيح، عالم الليل، عالم الفقراء والكادحين. كما تعود قيمتها كذلك إلى التنويه بالأدب الشفوي المضاد المتمرد على السلطة وعلى الأدب الكلاسيكي الباذخ أدب الصروح العاجية والبلاط. لهذا استحقت  سيرة شكري الذاتية كل هذا الاحتفاء في الشرق والغرب، كما يكتب إبراهيم مشارة.