الإعلام و''العسكر''

قيام النيابة العسكرية باستدعاء صحفيين مصريين وتصريحات غاضبة للمجلس العسكري بحق الفضائيات والصحف وحديث عن قانون يتبناه العسكر لتنظيم النشر الإلكتروني، كلها عناوين مقلقة للإعلاميين المصريين. فما مستقبل الإعلام بعد الثورة؟ هاني درويش من القاهرة في الإجابة عن هذا السؤال.



"اتصل بي أحد العاملين بقناة النيل للأخبار الحكومية، قبل أيام، ليشرح لي صعوبة استضافتي في برامجهم لوجودي في قوائم الممنوعين من الظهور في الإعلام الرسمي، لكني فوجئت بعد ثلاثة أيام بتوجيه المجلس العسكري نفسه دعوة لي لحضور لقائه بالمثقفين"، هكذا لخص الكاتب والإعلامي بلال فضل حكاية الإعلام المصري في هذه الأيام في حوار مع دويتشه فيله. وحسب فضل فإن عقلية التطوع لنفاق الجيش مستمرة داخل الجهاز الإداري للمؤسسات الصحفية الحكومية. ويضيف قائلا "انتقدت هذه الظاهرة أمام المشير طنطاوي نفسه وقيادات الجيش، موضحا لهم أن من قام بالفعل بالثورة هو الشعب المصري وحماها الجيش، ولا يصح أن يقال إن الجيش هو من قام بالثورة كما تدعي الصحف الحكومية. والمدهش أن من اعترض على كلامي هذا كان بعض المثقفين والقضاة وليس قادة الجيش".

الصورة دويتشه فيله
الصحافي سمير عمر يرى أن هناك ارتباكا في مصر بعد الثورة في مجالات عدة

​​والوضع في مصر مع المجلس العسكري يبدو وكأنه "إعادة إنتاج للمشهد العبثي ذاته الذي حدث عام 1952. فالمؤسسة العسكرية نفسها محافظة، لكن داخلها ضباط يؤمنون بحرية الرأي كمحمد العصار ومختار الملا، وآخرون أكثر ميلا للتحفظ كممدوح شاهين وإسماعيل عثمان". ومن ثم فالاستدعاءات تكون لصحافيين جاهروا بانتقاد المجلس العسكري. وعلى سبيل المثال تم التلويح بقانون النشر الإلكتروني جاء مباشرة بعد "يوم التدوين ضد المحاكمات العسكرية". ومبلغ القلق من هذا القانون أنه يلوح به قبل إنجاز إصلاح المؤسسات الصحفية الحكومية، التي تقود الآن معركة فلول النظام، ما يعني إغلاق النافذة الوحيدة المتاحة للمجتمع للتعبير عن آراؤه.


ويضيف مذيع برنامج في الميدان على فضائية التحرير الجديدة، أن الفضائيات والصحافة تتجرأ بشكل غير مسبوق على تعرية الأمور حتى العظام، و"نحن بذلك نختبر شجاعتنا كما يختبر الجيش صبره. إلى أي مدى ستستمر هذه المناورة؟ لا أعلم، ولكن الأمر معلق برمته علي قصر أو طول الفترة الانتقالية، والثورة شاؤوا أم أبو أطلقت الحرية لعنان السماء، ولا يمكن التراجع خطوة عن إنجازها في المجال الإعلامي".

 

صراع الإقدام والإحجام علي الرقابة


أما الصحافي المصري سمير عمر فأشار في لقائه مع دويتشه فيله إلى الارتباك الحادث بعد الثورة على نواح عديدة وفي مقدمتها مهنة الصحافة التي تمر بأزمة وخصوصا في المنابر التي لا يزال يسيطر عليها رجال عصر مبارك. ويبدي سمير عمر، الذي يعمل مراسلا قناة الجزيرة الفضائية القطرية، عن دهشته "من تعاطي المجلس العسكري بحزم فيما يخص منتقديه باسم ضبط حرية الصحافة، بينما نراه يطلق العنان لمن يحاولون تشويه الثورة".


ويوضح عمر بأن المجلس العسكري يشدد في لقاءاته مع الصحفيين على احترامه لحرية الإعلام والصحافة، لكن الواقع يدل على أنه ممزق بين الرغبة في عدم التقييد على الصحافة من جهة والخوف من جهة ثانية من دور الصحافة في إرباك مخططه لإدارة المرحلة الانتقالية. ويظهر هذا بشكل واضح عبر حساسية أعضائه الشديدة من استهدافهم شخصيا بالانتقاد، مثلما حدث في استدعاء المذيعة ريم ماجد والمدون حسام الحملاوي، حيث تحول الأمر من استدعاء للتحقيق إلى دعوة لتبادل وجهات النظر بعد أن واجهوا غضبة الجماعة الصحفية في 24 ساعة. هنا حققت الجماعة الصحفية مكسبا كبيرا، وقوت تيارا مهما داخل المجلس العسكري أقر ب لحرية الصحافة، في مواجهة التيار الأكثر محافظة.

 

الفضاء الافتراضي العدو الأول للعسكر

الصورة ا ب
المشير طنطاوي والمجلس العسكري والمخاوف من "الفضاء الافتراضي"

​​
محمد عمران الباحث في قضايا حرية الرأي والتعبير يلخص الأزمة في تكنيك مزدوج يتبعه المجلس العسكري، الأول اختباري يقيس به نبض المجتمع في تقليص الحريات الصحفية والإعلامية، والثاني ممنهج وهو نتاج الطبعة السلطوية التقليدية لمؤسسة كالجيش. وهذا الازدواج يحكم طريقة أدائه في المرحلة الانتقالية علي مختلف الأصعدة لا الصحافة وحدها. فباستدعاء الصحفيين ثمة رسالة بأنه أصبح" تابو" ، ثم تجري التحقيقات أو الجلسات فيفرج عن الصحفيين دوت توجيه تهم أحيانا أو دون تحقيقات، فيضطر الصحفيون والإعلاميون لاحقا إلى إرداف كلمة" مع احترامنا وتقديرنا لدور المجلس" في كل انتقاد يوجهونه له.
ويضيف عمران، في حوار مع دويتشه فيله، بأن هناك إرهابا ناعما هنا، والخطر الحقيقي على المجلس كما كان على مبارك هو الفضاء الافتراضي، فبمجرد إطلاق عبارة" المجلس العسكري خط أحمر" سارع المدونون لتنظيم "يوم التدوين ضد المجلس العسكري"، لذا يحاول المجلس تطويق "الفضاء الافتراضي". فمثلا يمكن أن يجرم عبر قانونه نشر فيديوهات تحض مثلا على الفتنة الطائفية، وبدلا من محاسبة الشيخ السلفي الذي حرض على الأقباط في إمبابة ستحاكم المحاكم المدون أو الناشط الذي نشر هذا الكليب بدعوى حماية الجبهة الداخلية أو أي تعبير مطاطي آخر، أو أن يكون الأمر فاضحا كما حدث مع المدون مايكل منير.


ويكمل المنسق الإقليمي لبرامج مؤسسة فريدريش ناومان شتيفتونغ التابع للحزب الليبرالي الألماني شرح منطق الازدواج في أن يقوم المجلس مثلا بالتأكيد في بياناته العامة علي حرية الصحافة، فيما يبلغ أعضاؤه بشكل فردي ضد صحفيين أو إعلاميين كما حدث مع الصحفيين عادل حمودة ورشا عزب من جريدة الفجر، حيث خرج الصحفيان دون أن يعرفا إن كانت هناك قضية ضدهما أم أن الأمر انتهى. وجزء من الأزمة هو الفراغ التشريعي الموروث من عصر مبارك فيما يخص قوانين النشر وتبادل المعلومات وسريتها وقوانين الوثائق.



هاني درويش ـ القاهرة
مراجعة: أحمد حسو
حقوق النشر: دويتشه فيله 2011