علينا الإلتزام بالحذر في تفسير الواقع

مظاهرات سلمية في لبنان، إسلاميون وليبراليون يحتجون في مصر ضد نظام مبارك، انتخابات بلدية في السعودية، ومفاوضات بين الأحزاب في العراق من أجل تشكيل ائتلاف حكومي. هل يمر العالم العربي بمرحلة تحول جذري؟ تحليل الباحث عمرو حمزاوي

مشاهد غير معهودة في الشرق الأوسط: مظاهرات سلمية في لبنان، إسلاميون وليبراليون يحتجون في مصر ضد نظام مبارك وانتخابات بلدية في السعودية، بلاغات صادرة عن مجموعات المقاومة الفلسطينية بشأن التخلي عن استخدام العنف ومفاوضات الأحزاب في العراق من أجل تشكيل ائتلاف حكومي. هل يمر العالم العربي بمرحلة تحول جذري؟ تحليل الباحث عمرو حمزاوي

على عكس الحال بالنسبة للجدل التبسيطي والإيديولوجي القائم في واشنطن على وجه خاص حول مدى تأثر الأحداث الراهنة بالسياسة التي تنتهجها إدارة بوش حيال الشرق الأوسط وعما إذا كان للعوامل المحلية والإقليمية باع أيضا في هذا الصدد، فإن التحدي الحقيقي القائم آنيا يكمن في عملية فهم التوجهات السياسية المختلفة التي تفرزها دول تختلف كثيرا عن بعضها مثل لبنان والسعودية.

تحول ديموقراطي فعلي؟

هناك قراءات ثلاث مكملة لبعضها تبدو في هذا الصدد منطقية على ضوء التعددية الإقليمية القائمة:

أولا التفسير الأكيد المتعلق بوجود انعطاف نحو الديموقراطية. ففي واقع الأمر تعددت مؤشرات بدء عمليات التحول الديموقراطي في عدة دول من العالم العربي. فقد جرت انتخابات في العراق وفلسطين اتسمت رغم وقوعها في ظل الاحتلال الأمريكي والإسرائيلي بطابع النزاهة والتعددية وبمشاركة كبيرة من قبل سكان هذين البلدين.

إن ميزان القوى الناجم عن الانتخابات العراقية يمنع ظهور ما خشي منه من هيمنة الأغلبية الشيعية على البلاد ويرغم آية الله الكبير السيستاني وحلفاءه على التعامل مع مطالب الفئات الشعبية الأخرى بروح الاتفاق.

ولم يعد التهديد بتشكيل حكم تيوقراطي في العراق على نمط إيران واردا بالنسبة للمستقبل القريب في أضعف الاحتمالات. كما أن حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين "حماس" تشدد بصورة متزايدة على إرادتها بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية التي ستجري في شهر يوليو/تموز المقبل.

ولا عجب في ذلك نظرا لكون حماس قد حازت في انتخابات البلدية الأخيرة التي جرت في المناطق المحتلة على 70 بالمائة من الأصوات في غزة و25 بالمائة في الضفة الغربية. وأدى التحول البرغماتي في موقف حماس إلى تكريس وقف إطلاق النار مع إسرائيل وتقبل الخط السياسي للرئيس الجديد أبو مازن.

فالمعارضة الإسلامية تخطو خطى واسعة نحو التحول تدريجيا من موقعها الحالي إلى أحد الأطراف التي تعرّف نفسها كعنصر من عناصر البيئة السياسية الشرعية التي تجري فيها الصراعات الأيديولوجية والنزاعات حول المصالح على نحو سلمي وفي إطار المؤسسات الديموقراطية. وسيصبح البرلمان الفلسطيني في المستقبل بمثابة مدرسة تتعلم فيها حركة حماس الاعتدال والتسامح.

خرق النمط الاستبدادي

مما لا شك فيه أنه لا يمكن استخلاص استنتاجات حول المنطقة بكاملها من التطورات العراقية والفلسطينية إلا بمقدار صغير. فمن الرؤية العربية يبقى الطابع الاستثنائي مهيمنا على هذين النموذجين. لكن هذا الطابع الاستثنائي يفقد سريان مفعوله إلى حد كبير حينما نراعي أيضا التغيرات التي بدأت تطرأ داخل لبنان والسعودية ومصر.

فلو نظرنا نظرة مشتركة إلى هذه الوقائع التي حدثت في تلك الدول الثلاث للاحظنا بأنها –أي الوقائع- تدل على خرق في النمط الاستبدادي للعلاقة بين الدولة والمجتمع.

فالنظامان المطلقان في الرياض والقاهرة والحكومة اللبنانية المسيّرة من سوريا وجدت نفسها مجبرة على اللجوء إلى الإصلاحات السياسية نظرا لكون أغلبية السكان فيها يساورها الإحساس بعدم الارتياح وبسبب تزايد النقد الغربي الموجه لهياكل الحكم غير الديموقراطي فيها.

من المؤكد أن إجراء الانتخابات السعودية التي كان حرمان النساء من المشاركة فيها أحد عناصرها المميزة أو تقديم سوريا لوعود بشأن سحب جنودها ورجال مخابراتها من لبنان لا يشكلان إصلاحا شاملا متمشيا مع عملية إدخال الديموقراطية على نحو قوي صلد.

كما أن هناك خطرا واقعيا ملموسا حول جعل تعديل الدستور المصري بشأن انتخابات الرئيس على النمط التونسي يصبح مجرد حبر على ورق، حيث سعى بن علي من خلال إخراجه لعملية تمديد الرئاسة المتشبث به لإعطاء الانطباع بوجود نمط من التعددية في هذا الصدد.

تجاوب مع الضغوط الشعبية

رغم ذلك فإن جوهر الأمر يكمن في المقدرة على دفع الحكام المطلقين إلى القيام بتنازلات. وقد بدأ "آباء السلطة" في الدول العربية يتعاملون مع حركات الاحتجاج الداخلية لا كالمعتاد من خلال اللجوء إلى القائمة المتنوعة لأساليب القمع بل بدؤوا يتجاوبون مع الضغط النابع من الرأي العام الذي لم يكن يضمر في السابق هذه الدرجة القوية من الإيمان بقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان.

إن هذا يعكس وجود ثورة حقيقية في هذه المنطقة التي عرفت على مر السنين ثقافة سياسية اقتصرت على النقد المبطن والنزوع إلى مواقف محض سلبية. إذن فقد بدأ خريف آباء السلطة يلوح في الأفق.

أخطار التوجه الإسلامي

كفى تقديم الصور الجمالية المزورة! إذ أن القراءة الثانية الواردة تحول الأنظار التحليلية إلى الأخطار المتأصلة للتوجه الإسلامي المتطرف والعنف العرقي في البيئة السياسية العربية الراهنة. فعلى عكس الحال في دول كالجزائر ومصر خفت فيهما موجات العنف بوضوح يلاحظ وجود تصعيد متزايد لدى الحركات الإسلامية المتطرفة لا سيما في منطقة الخليج.

ولو نظرنا إلى الفئات الإسلامية المتفرقة هناك خاصة في السعودية والكويت حيث أنها تنشط في هذين البلدين على نحو مثير للاهتمام لرأينا بأنها تستلهم من بقاء بن لادن على قيد الحياة ومن فظاعة الأعمال الإرهابية في العراق القناعة بكون الأوضاع في هذين البلدين بمثابة ساحة للقتال النهائي ضد "المشركين".

وهي تلجأ بصورة دائمة إلى أعمال عنف عقيمة بدافع الإيمان بالقدر الجبري مما يجبر سلطات الدولة إلى اتخاذ إجراءات قمع ضدها. ويتحول الخطر الكبير الكامن في التطرف الإسلامي إلى حريق يهدد المنطقة بكاملها لو راعينا استمرار وجود تيار رجعي متخلف في دول الخليج.

فنتائج الانتخابات السعودية التي أسفرت عن إحراز غلاة المحافظين الوهابيين لأغلبية المقاعد بالإضافة إلى النقاش العقيم الدائر داخل البرلمان الكويتي حول الحقوق السياسية للمرأة أمران ينبغي النظر إليهما في هذا الصدد كمؤشرات أولية تنذر بأخطار مقبلة محتملة.

أما صدى هذه التطورات على المستقبل السياسي بالمفهوم الشامل فهو خطير للغاية. حيث أن الأنظمة تبرر التعامل المتباطئ مع عملية الإصلاح كحال السعودية أو حتى تجميده كالحال في الكويت بحجة الضرورة لمكافحة الإرهاب.

كما أن الغرب يتجنب لأسباب مفهومة وضع دول الخليج بصورة حازمة تحت مطرقة الضغوط الداعية إلى تحقيق الديموقراطية. إذ يحتل الحفاظ على النظام العام في هذه المنطقة الهامة استراتيجيا أهمية تفوق من الرؤية الواقعية تكريس الأحلام الديموقراطية خاصة وأن القوى المعارضة هناك تتبنى مفاهيم سياسية تختلف عن مفاهيم الغرب.

تهميش فرق دينية أو إثنية

بؤرة الخطر الأخرى تنشأ من التربة الخصبة لاندلاع النزاعات الإثنية والدينية. فكثيرا ما اتسمت الأنظمة العربية بطابع التحيز العرقي لفئة ما دون أن يتمشى ذلك مع الواقع الاجتماعي أو مع عقود الاتفاق العامة.

فالتنكيل والتهميش هما من الأمور السائدة في الجزائر منذ زمن طويل تجاه البربر وفي سوريا تجاه الأغلبية السنية وفي منطقة الخليج لاسيما في البحرين والسعودية إزاء تعامل سلطات الدولة هناك مع المواطنين الشيعة.

وكان هذا الوضع قائما أيضا لمدة طويلة وبصفة هيكلية في العراق وفيما يتعلق بالعلاقة بين شمال السودان وجنوبه. والآن بدأ التوزيع الإثني والديني يتغير داخل معادلة السلطة في هذين البلدين ونشأت مؤسسات سياسية يتم فيها انتخاب ممثلي مجموعات الشعب المختلفة على نحو ديموقراطي.

وهذا التطور لا ينظر إليه في صفوف الرأي العام العربي لا سيما في حالة العراق كمسألة هامشية الاعتبار. ففي كل أنحاء المنطقة ترتفع أصوات المضطهدين وتتخذ مطالبهم صيغا جلية واضحة. وأخيرا يجد مثل هؤلاء المستضعفين قادة منشودين يعبرون عن مصالحهم مثل السيستاني وقائد حركة جنوب السودان جون غارنغ.

ولا تملك إلا قلة من الدول المعنية الوسائل الضرورية للتعامل تجاه النزاعات التي ستطرأ في أغلب الاحتمالات على نحو يؤدي إلى احتوائها. وقد تعامل النظام السوري في العام الماضي مع القلاقل التي وقعت في منطقة الأكراد من خلال ذلك المزيج المعهود بين القمع السافر والبروباغندا الرخيصة.

وحتى في البحرين فإنه على الرغم من وجود هياكل ديموقراطية إلى حد ما فيها فإن درجة تمثيل الأغلبية الشيعية أدنى من المعدل السكاني، مما يجعلها تشعر بالتهميش على حق. ومع أن الإصلاحات السياسية باعتبار أنها تفرز توسيعا في حجم المشاركة هي الصيغة الوحيدة الملائمة لمكافحة النزاعات العرقية والدينية فإن مصدر الخطر الثاني هذا ينعكس سلبيا على فرص نشر الديموقراطية في العالم العربي. ويظهر في بعض الأحيان الانطباع بأن حكام هذه الدول يعمدون كلما أحسوا بالمخاطر الكامنة إلى الدفاع عن أنظمتهم باستخدام المزيد من القمع والابتعاد تماما عن حلول الوسط.

أهمية الدولة الوطنية

هل خطر تصعيد الفروق العرقية والدينية قائم أيضا في لبنان؟ إن الأطراف الرئيسية للساحة السياسية في لبنان على الرغم من وجود فروق شاسعة في الرؤى بين حسين نصر الله ووليد جنبلاط مثلا تتفق في إطار معادلة سياسية نابعة من أرضية الدولة الوطنية.

هذا لا يتضح فقط من خلال النبذ الرمزي لكافة الأعلام الأجنبية والحزبية من الشعارات التي حملها المتظاهرون في بيروت بل أيضا على وجه خاص من خلال التطابق المرئي لدى كافة الجبهات المختلفة بوجوب مسك زمام أمور البلاد من قبل قادة سياسيين لبنانيين ودون تدخل من أي طرف خارجي.

تلك كانت الرسالة المركزية للمظاهرات التي نظمها حزب الله وشارك بها مليون شخص، وقد عكست تلك المظاهرات على نحو مثير للتقدير وزن هذا الحزب على الصعيد الاجتماعي وطموحاته السياسية. وهنا يتحول مفهوم السيادة الوطنية من مجمع الخوف المتضمن مقولة "نحن ضد العالم الخارجي" بغض النظر تماما عما إذا كان المقصود من هذه العبارة واشنطن أو دمشق، إلى صيغة أخرى مبنية على حلول وسط هي "نحن مع بعضنا البعض"، وهي صيغة تجعل الاهتمام المركزي يتجه نحو القضايا السياسية التي تعني الدولة مباشرة.

الملاحظ اليوم في كل أنحاء المنطقة وجود توجه مشابه نحو الاعتراف بحدود الدولة الوطنية القائمة كمؤشر للمطالب السياسية. فالدولة الوطنية التي طالما شعر القوميون العرب نحوها بأحاسيس الاحتقار وكافحها الإسلاميون استعادت مقامها وأخذت تؤدي إلى تهميش مفهوم الأمة العربية أو الإسلامية السياسي الذي يتخطى حدود الدولة الوطنية.

ففي المؤتمر الشعبي الأخير لحركة الاحتجاج المصرية المسماة "كفاية" في شهر فبراير/شباط الماضي لم ترفع شعارات لا ضد الولايات المتحدة ولا إسرائيل. ولم تتم الإشارة على الإطلاق لا إلى العراق ولا لاحتلال فلسطين مع أن هذا الموضوع كان له في السابق وقع سحري على الجماهير.

ولم يتطرق المؤتمر إلا إلى موضوع الإصلاحات السياسية في مصر. وحتى شيعة البحرين والسعودية الذين يعاملون معاملة أدنى درجة من بقية المواطنين فإنهم يطالبون بتغييرات تتم في إطار الدولة الوطنية نفسها.

وهم كحال شيعة العراق لا يتبنون مطامح انفصالية بل يهدفون من خلال نشاطاتهم إلى تكريس تمثيل سياسي أفضل لهم وتوزيع أكثر عدلا للثروة بينهم وبين بقية فئات الشعب. إن العودة إلى تبني مفهوم الدولة الوطنية تشكل إذن القراءة المنطقية الثالثة للواقع العربي فهي تساهم في تعزيز الإصلاحات الديموقراطية كلما دلت المؤشرات على وجود اتفاق تدريجي في المجالات السياسية.

كتب الفيلسوف الألماني كارل لوفيت (1897- 1973) في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه "من هيغيل إلى نيتشه" الصادر عام 1939 "لا نهاية على الإطلاق لعملية التحول في المعنى، إذ لا يمكن معرفة نهاية التاريخ مسبقا". وعلى ضوء التعدد والفروق القائمة إزاء التطورات الواقعة في العالم العربي اليوم فليس هناك ختاما أبسط وأوضح من هذه الملاحظة التي تحثنا على التزام الحذر.

عمرو حمزاوي
صدر المقال في جريدة زود دويتشه تسايتونغ
ترجمة عارف حجاج
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2005

عمرو حمزاوي باحث في العلوم السياسية ويعمل حاليا في معهد كارنغي إندومانت في واشنطن.

قنطرة

بين الإصلاح والسياسة التقليدية
غلبت نبرة سلبية على تقييم الانتخابات البلدية في السعودية. ووصفها الكثير من الخبـراء بكونها مجرد خطوة تجميلية لتخفيف الضغـوط. ولكن هل يمكـن أن نقيس هذه الانتخابات بمقاييس ليبرالية وأن نهمل الخصوصيات الحضارية والتاريخية؟ تحليل عمرو حمزاوي

أحمد سيف الإسلام حمد
تطالب العديد من الأطراف في مصر بتغيير الدستور لكي يتمكن المصريون من انتخاب رئيس الجمهورية بين أكثر من مرشح. في الحوار التالي يتحدث المدير التنفيذي لمركز هشام مبارك للقانون عن خلفية اندلاع هذه المناقشة وردود فعل السلطة على مطالب الإصلاح

أبو مصعب الزرقاوي
ما ان يصل خبر عملية إرهابية من العراق حتى نسمع ان خلفها يقف شخص اسمه ابو مصعب الزرقاوي، لكن من هو هذا الزرقاوي؟ هل هو حقيقة أم وهم أم قناع تختفي وراءه جهات مختلفة؟ تقرير ألكسندرا زنفت