تركيا كنموذج للشرق الأوسط؟

مع استلام إردوغان رئاسة الوزراء في تركيا تغير موقف العرب من السياسة التركية التي طالما جوبهت بالإهمال في الماضي. فالكثير من دعاة الإصلاح العرب يرون الآن في النموذج التركي الجديد مثالا يمكن أن تحتذي به دول المنطقة كلها. راينر هيرمان يكشف سر هذا التحول.

رئيس الوزراء التركي إردوغان، الصورة: أ ب
رئيس الوزراء التركي إردوغان وراء التقارب العربي-التركي

​​

يتعين على العرب أن يعتادوا مجددا على رؤية جنود يرتدون الزي العسكري التركي. فمنذ أقل من شهر "عاد" الجنود الأتراك إلى لبنان. إنهم يشكلون جزءا من الفرقة العسكرية التابعة للأمم المتحدة. بالقرب من ميناء مدينة صور الواقعة في جنوب لبنان الشيعي في أغلبه وعلى بعد مسافة ضئيلة من الحدود الإسرائيلية ألقيت على عاتق 680 جنديا ومدنيا مهمة ضمان السلام وإعادة بناء البنية التحتية المدمرة لهذه المدينة.

قام الجنود الأتراك العاملون تحت مظلة الأمم المتحدة بأداء المهام المعهودة إليهم سواء في البوسنة وكوسوفو والصومال أو في أفغانستان. هناك سببان دفعا تركيا لإرسال جنودها التابعين لحلف شمال الأطلسي (الناتو) لأول مرة إلى بلد عربي.

السبب الأول هو أن العرب في حاجة إلى الأتراك كعنصر قوة يوازن النفوذ المتزايد لإيران في المنطقة. السبب الثاني هو التغيير الجذري الذي طرأ في السنوات الماضية على علاقة العرب بتركيا اليوم وريثة الإمبراطورية العثمانية التي استعمرتهم من على ضفاف نهر الفوسفور.

فمنذ وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي المعتدل إلى سدة الحكم بدأ العرب يبدون من جديد اهتمامهم بتطورات الأحداث في تركيا. وأخذ العرب سواء الإسلامويون منهم أو غير ذلك من المثقفين يهتمون بالتجربة التركية حيال عملية التوفيق بين الإسلام والديموقراطية.

الإرث العثماني

لقد مضت قرابة 90 عاما على انسحاب الجنود الأتراك من بلاد الشام. يومها منيت الإمبراطورية العثمانية وحليفتها ألمانيا بهزيمة نكراء. أنشأ العرب بعد ذلك أول دول لهم قائمة على قاعدة القومية فيما أسس الأتراك جمهوريتهم العلمانية.

أبعدت الجمهورية التركية الإسلام من موقع الظهور العام وأدخلت الأبجدية اللاتينية محل الأبجدية العربية. أدى ذلك إلى تصعيد مشاعر الامتهان القائمة لدى العرب حيال الأتراك لا سيما وأن السلالات العثمانية كانت قد بسطت هيمنتها على العالم العربي طيلة ألف عام. حمّل العرب خضوعهم للحكم العثماني مسؤولية تخلفهم الثقافي، أما كمال أتاتورك فقد عمد من ناحيته إلى مطابقة ظاهرة التخلف بكل من الإسلام والعرب.

بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية تحولت الكراهية العميقة المتبادلة بين الطرفين إلى صورة عدم الاكتراث بالطرف الآخر. فعندما بحث عالم الدراسات الإنسانية التونسي عبد الجليل تميمي في أطروحات الدكتوراه الصادرة عن جامعات عربية حول تركيا المعاصرة تبين له بأن عددها لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة.

كما أنه لاحظ كذلك وجود ظاهرة "عدم اكتراث لا متناه" لدى أتباع كمال أتاتورك تجاه العالم العربي. وقد عبر المثقف المصري خالد محمد خالد قبل نصف قرن كامل عن المشاعر القائمة لدى العرب حيال الأتراك عندما استنبط وجود تطابق شبه كامل في المعنى بين مصطلحي Tyrann أي "الطاغية" و"طوران" مسقط راس الأتراك من ناحيتي الايتمولوجيا وعلم دلالات الألفاظ.

إنعطافة جديدة في العلاقات

حدث انعطاف في نهاية القرن العشرين فبدأ كل من الطرفين ينظر إلى الطرف الآخر بعيدا عن الأحكام المسبقة. ومنذ أن ارتقى رئيس حزب العدالة والتنمية الإسلامي، رجب طيب إردوغان، إلى منصب رئيس الحكومة في تركيا بدأ العرب يهتمون فجأة بمجريات الأمور في تركيا.

فكتبت جريدة لبنانية مقالا بمناسبة العيد الوطني لتركيا في 29 أكتوبر/تشرين أول جاء فيه أن التجربة الديموقراطية لتركيا تشكل مثلا يمكن لكافة الدول العربية التي تنشد التوجه الديموقراطي أن تحتذي به. وأشاد كاتب المقال الافتتاحي المذكور بتركيا بقوله إنها أصبحت تلعب اليوم دورا بارز الأهمية على الصعيدين الإقليمي والدولي.

كان لتركيا حتى مدخل التسعينيات موقع مستأجر الذي كان على خلاف دائم مع كافة جيرانه. أما اليوم فقد أصبحت تركيا كالذي يملك أوراقا رابحة في يده نظرا لكونها تتبادل علاقات طيبة مع كل دول المنطقة ما عدا أرمينيا.

سبب ذلك أن إردوغان جعل ملفات الشرق الأوسط محورا يتولى أعباءه بنفسه. فهو يتخاطب مع رئيس الحكومة الإسرائيلي مباشرة عبر الهاتف فيما يعهد لممثلي حزبه مهمة استقبال خالد مشعل زعيم أكثر الأجنحة تطرفا في حركة حماس.

هنا كان بالإمكان الاعتقاد بأن إردوغان يضمر للمسلمين الفلسطينيين تعاطفا أكثر من الحال تجاه الإسرائيليين. لكنه على مقدار كبير من الحكمة السياسية الأمر الذي يجعله يدرك بأن تركيا لا يمكنها أن تحتل دورا قياديا في المنطقة إلا في حال نجاحها في تبوء دور الوسيط بين الأطراف المتنازعة.

زحف تركي بدون سيف

هذا الأمر مبني على وجود ثقة في إردوغان لدى كافة الأطراف المعنية. إذ لم يفرط هذا السياسي المسلم المتدين بثقة الإسرائيليين كما أنه أعاد ثقة العالم العربي ببلاده. وقد نشر في هذا السياق مؤخرا مقال افتتاحي في جريدة الخليج الصادرة في دبي جاء فيه بأن تركيا بدأت تحتل مركزا قياديا في العالم العربي الأمر الذي يخدم مصالح المسلمين والعالم الغربي على حد سواء.

يعزي المثقف المصري العلماني عبد المنعم سعيد رئيس المركز المصري للدراسات الاستراتيجية في مقال له في جريدة "الشرق الأوسط" العربية أسباب نجاح ما يطلق عليه تسمية "الزحف التركي" الى كونه،على عكس الحال لدى حركة الإخوان المسلمين المصرية، لا ينطلق من شعار "الإسلام هو الحل" ويضيف بأن حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه إردوغان لا يستخدم "السيف" في تعامله مع خصومه السياسيين كما أن أعضاء هذا الحزب لا يسخرون القرآن لأغراضهم السياسية.

يستطرد الكاتب بأن الإسلام التركي أوجد "صيغة خلاقة" يأمل في أن يهتدي بها “الإخوان المسلمون” وغيرهم من دعاة الحركة الإسلاموية في العالم العربي.

هذا ما يحدث في حقيقة الأمر، فحركة “الإخوان المسلمين” المصرية وخاصة جيل الوسط البرغماتي داخلها يتابع بدقة كيفية نجاح إردوغان في تحقيق الربط بين إيمانه كمسلم وبين ممارسته السياسية كديموقراطي محافظ وكيفية صموده في وجه قيادة الجيش الجبارة التي تعتبر كل بيان يتسم بطابع ديني خطرا على الصفة العلمانية للجمهورية ونجاحه في إكساب الاقتصاد التركي طابع الاستقرار بعد مرحلة التقلب والتذبذب مما أدى إلى مضاعفة معدل دخل الفرد في غضون خمسة أعوام فقط.

نهوض "من الداخل"

جاءت من أوساط الاقتصاد التركي أول مؤشرات توحي بنشوء أشكال جديدة للعلاقات بين العرب والأتراك. فقد غزت المنتجات الاستهلاكية المناسبة سعرا وذات الجودة العالية المصنوعة في تركيا الأسواق العربية ابتداء من بنطلونات الجينز والبسكويت إلى أجهزة التلفزيون والثلاجات.

وقد أزال ذلك في أذهان العرب صورة "التركي القبيح". لكن القنوات الإخبارية العربية لم تغط وقائع الأحداث في تركيا حتى عام 2002 إلا بصورة هامشية بحتة وفي حال قيامها بذلك كانت تتناول في المقام الأول العلاقة القائمة بين أنقرة وإسرائيل.

لقد تغير هذا الأمر. فباتت القنوات العربية تحيط المتفرجين يوميا تقريبا علما بوقائع الإصلاحات السياسية المتخذة في أنقرة وبالنهضة الاقتصادية في استانبول. مدلول الخطاب الأيديولوجي في هذا السياق هو أن المسلمين يقومون في تركيا "من الداخل" بنشر الديموقراطية في نظام دولة متآكل ويناضلون على سبيل المثال من أجل تكريس المزيد من حرية التعبير عن الرأي.

وقد هيمنت الدهشة على نفوس المواطنين العرب المحكومين من أنظمة استبدادية عندما بلغ إلى سمعهم في أول مارس/آذار 2003 بأن قيادات بلادهم بايعت بناء على إلحاح من قبل الولايات المتحدة الحرب ضد العراق فيما رفضتها تركيا الديموقراطية وفقا لقرار صدر بهذا الشأن عن برلمانها.

تركيا والإتحاد الأوروبي

ليست تركيا مؤهلة لأن تكون نموذجا يتبناه العالم العربي بصورة متكاملة فرواسب التاريخ تحول دون ذلك. لكن التجربة التركية تظهر ما يمكن للمسلمين أن يحققوه من منطلق مبدئي. لهذا فحتى المثقفون العلمانيون العرب بدأوا يتطلعون إلى تركيا ويتحسسون مشاعر الاستياء المتزايد حيال احتمال رفض الاتحاد الأوروبي ضم أنقرة إلى صفوف أعضائه.

أوضح مثقف يساري كويتي أسباب ذلك بقوله إنه يخشى في حالة الرفض "أن ينمو نفوذ الإسلامويين الراديكاليين لدينا وأن يتبجحوا بحجتهم المعروفة القائلة إن الاعتدال والتحول لا يؤتيان بثمار مما يجعلهم يضعون كل جهودهم مجددا في سبيل تكريس الشريعة".

راينر هيرمان
ترجمة عارف حجاج
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2006
صدر المقال في جريدة فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ

راينر هرمان صحفي ألماني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.

قنطرة

الإسلاميون العرب والنموذج التركي
هل ستبقى تجربة حزب العدالة والتنمية محصورة داخل الحدود التركية بحكم كونها نتاج أوضاع غير قابلة للتكرار أم أنها رغم خصوصيتها ستؤثر في الفكر السياسي لعدد من الحركات الإسلامية العربية ذات التوجه الإصلاحي؟ تحليل صلاح الدين الجورشي

تركيا أمام امتحان الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي
الاصلاحات في تركيا معطلة، والهوة بين النخب العلمانية والقوى الدينية تتسع الآن أكثر من أي وقت مضى. لكن ألا ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن