علمانية دون إصلاحات دينية

على عكس ما حدث في أوروبا فإن العلمانية في العالم الإسلامي سبقت الإصلاح الديني، ما ترك عواقب وخيمة على التطور السياسي للمجتمعات الإسلامية. نادر هاشمي يستعرض إشكالية محاربة العلمانية في ظل غياب إصلاحات عقائدية شاملة.

محمد علي، الصورة: ويكيبيديا
على الرغم من تمكن محمد علي من اختراق النظام التقليدي في مصر وتحديث البلد، لكنه اضطر إلى مواجهة حقيقة أن قرنين من التحول الفكري والاجتماعي المتواصل في أوروبا مرت بمصر من دون أن تترك أثراً يُذكر"

​​ يعد عبدو فيلالي-أنصاري من المثقفين الحاذقين الذين ينشغلون في الوقت الراهن في الكتابة عن علاقة الإسلام بالديمقراطية. وفي أحد منشوراته عن التوترات بين الإسلام والعلمانية ما يزال منذ أكثر من عشرة سنوات متمسكاً برأيه القائل: "في العالم الإسلامي سبقت العلمانية إصلاحاً عقائدياً شاملاً- بشكل يختلف عما حدث في أوروبا، حيث كانت العلمانية نتيجة للإصلاح". وللأسف فإن المؤلف لم يكمل تتبعه لهذه الفكرة، لأن هذا الأمر يمكن أن يساعد كثيراً على فهم المشاكل، التي تواجهها المجتمعات الإسلامية في تطورها السياسي في الوقت الحالي.

أما في تاريخ العالم الغربي فقد اجتذب الإصلاح العلمانية، لذلك يكاد لا يمكن النظر إلى نشوئها وانتشارها بمعزل عن الإصلاحات والحروب الدينية التي كانت نتيجتها تمزيق أوصال أوروبا.
وبعبارة أخرى، فإن فقط طروحات مارتن لوثر الـ95، التي أصدرها عام 1517، مكنت الفيلسوف والمفكر الانجليزي جون لوك (1632 - 1704) من أن يضع رسالته عن التسامح عام 1689. ويعد هذا النص أحد أقدم الدعوات المعروفة في تاريخ الفكر الأوروبي، التي طالبت بفصل الكنيسة عن الدولة بشكل واضح. ولذلك فإنه يبدو من الصعب تماماً تصور عكس هذا التسلسل المرتبط بالإصلاح والعلمانية، لأنه لم تكن هناك قبل ذلك ميول سياسية لفصل الجانب الديني عن السياسي في أوروبا.

الدين بوصفه مرجعاً أخلاقياً

في الحقيقة لاقت كل محاولة تجديدية في مجال الدين في أوروبا شكوكاً متجذرة كبيرة حتى بدء عصر التنوير، فقد كان الدين يعد مصدراً للمرجعية الأخلاقية. لذلك تم التهجم على الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز (1855-1679) مراراً وتكراراً واعتباره ملحداً. وفي مطلع كتابه "لواياثان" يتوقع الكاتب نفسه هذا الأمر: إذ يظن أن منتقديه سيغضبون في المقام الأول بسبب نقاشاته الدينية الجديدة، وليس بسبب صراحته السياسية.

غلاف الكتاب
"المجتمعات الإسلامية لم تعرف تحولاً فكرياً واجتماعياً راسخاً متأتياً من قاعدتها، ومطابقاً للتحديث المفروض بسلطة الدولة، توضح مقدار تخلف الثقافة السياسية لهذه البلدان"

​​ وجون لوك هو الآخر كان في البدء اصلاحياً. وكما سبق الإصلاح العلمانية، فإن أهم مؤلفين لجون لوك، وهما "مقالتان عن الحكم" و"رسالة عن التسامح"، يستندان على تفسير جديد للتفكير المسيحي. وساهم هذان العملان بشكل كبير في إرساء أسس العلمانية في العالم الغربي. في المقالتين تنتقل الشرعية الاخلاقية للسلطة السياسية من "الحق المقدس" للملك إلى موافقة المحكومين. وفي "رسالة عن التسامح" يعرض لوك إعادة تفسير ديني للمسيحية كمقدمة للآراء الجديدة، التي يطرحها حول العلاقة بين الكنيسة والدولة.

ولكنه خلال ذلك ينأى بنفسه عن الفهم الهوبوزي (نسبة إلى توماس هوبز) السائد، من خلال تعليله أن التسامح الديني يمكن أن يرافق من دون شك النظام السياسي، بشريطة أن يكون المرء في وضع يمكنه من "التمييز بين شؤون السلطة السياسية وشؤون الدين بشكل دقيق وتثبيت الحدود المناسبة بينهما". أي بعبارة أخرى، فإن لوك يقدم في البدء فهماً للعلاقة المعيارية بين الدين والدولة في إطار تفسير ديني مختلف، من أجل إعادة تشكيله مجدداً بشكل بناء. وهنا يتضح جلياً أن ميول العلمانية والديمقراطية في ذلك الوقت كانت مشروطة بإصلاح جذري في العقيدة لتصورات الدولة والحكم.

العلمانية في العالم الإسلامي

أما في العالم الإسلامي فقد حدثت هذه العملية بشكل معكوس تماماً، كما يثبت فيلالي-أنصاري بشكل صحيح: فقد سبقت العلمانية الإصلاح، الأمر الذي ترك عواقب كبيرة على التطور السياسي في المجتمعات الإسلامية.
إذ وصلت العلمانية إلى هذه المجتمعات في البدء من خلال القوى الاستعمارية الأوروبية، وفيما بعد من خلال مساعي التحديث وما صاحبها من قمع في مرحلة ما بعد الكولونيالية. لذلك كانت العلمانية عملية مفروضة بسلطة الدولة، ولم تكن تطوراً متأتياً من قاعدة قد نتجت عن جدل داخل مجتمع مدني.

تبنى المؤرخ المرموق مارشال هودجسون هذا الرأي في مقالة له، يقارن فيها بين بدء الحداثة في أوروبا بالتطورات الموازية في منطقة الشرق الأوسط. وفي مقالته ينبه هودجسون إلى فرق حاسم ذي نتائج جوهرية في التطور السياسي لكل منهما: إن مواجهة مكونات الحداثة في الوقت الراهن كانت بالنسبة للمسلمين، على نقيض الأوروبيين، تجربة ذات تسارع تاريخي، أدت إلى مقاطعة جذرية للماضي. إن الخلل الأكبر في هذا التطور يكمن في أنه لم يكن مصحوباً عموماً بتحول في القسيم السياسية والفكرية والدينية في المجتمع.

برنامج تحديث شامل في مصر

نادر هاشم، الصورة: خاص
يعمل نادر هاشمي أستاذا مساعدا للاقتصاد السياسي للشرق الأوسط والعالم الإسلامي في جامعة دنفر

​​ في الفوضى التي نجمت عن احتلال مصر من قبل نابليون (1798-1799) نجح قائد الجيش الألباني محمد علي (1769-1849) في تولي السلطة عام 1805، بعد أن أطاح بالمماليك. كما نجح محمد علي في بإصلاح المجتمع المصري من خلال برنامج تحديث شامل. ونظراً لهذه الإصلاحات الجذرية ما زال محمد علي يعد الأب المؤسس لمصر الحديثة.

يرى هودجسون أنه على الرغم من تمكن محمد علي اختراق النظام التقليدي في مصر وتحديث البلد، لكنه اضطر إلى مواجهة حقيقة أن "قرنين من التحول الفكري والاجتماعي المتواصل في أوروبا مرت بمصر من دون أن تترك أثراً يُذكر. وكانت نتيجة هذا النقص أن محمد علي لم يتمكن من إقامة حدود معينة تتوافق مع نواياه: حدود لم تكن معهودة بعد في ذلك الوقت، لكن من الممكن أن تصبح طبيعية للغاية في وقت قريب".

تتضح رغبة محمد علي في مساعدة مصر للوصول إلى حياة فكرية جديدة بشكل نموذجي في نظام التعليم الحديث، الذي أدخله. وكان هذا النظام معتمداً على النماذج الغربية، لكن نقطة ارتكازه كانت تكمن في التعليم التقني والعلوم الطبيعية. لكن على عكس هذه النوايا الحسنة فإن تأثير هذه الجهود كان في بعض الأحيان "مدمراً"، كما يرى هودجسون. فقد كانت الهوة آخذة في الاتساع بين نخبة صغيرة، تتمتع بتعليم علماني-غربي، وشريحة واسعة من المصريين، بقيت مستثناة من هذا.

إن الطلاب والدارسين المنتمين إلى هذه النخبة، كما يقول هودجسون، لم يكن لهم "إلمام بالتاريخ الإسلامي لبلدهم، ولم يحظوا إلا بتعاطف قليل في محيطهم الاجتماعي، كما كانوا يكنون لهذا المحيط". والحفاظ على "التواصل الثقافي للبلد" بقي من هذا الجانب متروكاً للفئة الأخرى، أي للذين يتمتعون بتعليم تقليدي.

انتكاسات عملية تحديث

إن ما نتج عن الإصلاحات في مصر، أثر على الجدل الذي يدور في العالم الإسلامي حول الدين والعلمانية والديمقراطية، وعن هذا يقول هودجسون: "كان البعض مهووساً بالتعلم بمساعدة الكتب الحديثة، الأمر الذي قاد إلى ابتعادهم بشكل ما عن مواطنيهم، لاسيما أنه لم يعودا يعرفون عن دينهم أي شيء تقريباً. أما البعض الآخر قد أصبحوا بشكل متزايد حماة لذلك الدين، لكن بصورة غير شرعية، لأنه لم تكن لهم صلة بالمصادر الفكرية للحياة العصرية".

وما حدث في مصر، تكرر "في الكثير من دول الشرق، التي تسودها ثقافة تعليمية حضرية، حتى وإن كانت تتخذ شكلا آخر وبملامح أقل وضوحاً وخاضعة لشروط إطارية مختلفة"، كما يرى هودجسون. إن الحداثة الإسلامية ناتجة عن قطيعة واضحة، وتحمل طابع "الانقطاع البالغ الأثر". ولهذا الأمر أهمية كبيرة، باعتباره إضافة لوجهة نظر فيلالي-أنصاري، التي تقول إن العلمانية سبقت الإصلاح العقائدي في المحيط الثقافي الإسلامي- "على النقيض مما حدث في أوروبا، حيث كانت العلمانية نتيجة للإصلاح". إن ملاحظة هودجسون التي تقول إن المجتمعات الإسلامية لم تعرف "تحولاً فكرياً واجتماعياً راسخاً" متأتياً من قاعدتها، ومطابقاً للتحديث المفروض بسلطة الدولة، توضح مقدار تخلف الثقافة السياسية لهذه البلدان.

أي بعبارة أخرى: لأن العلاقة بين الدين والسلطة الدنيوية، كما هو المعيار في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر، لم تشهد أي تأثير من قبل حركة إصلاحية على سبيل المثال، ولذلك لم تتشكل حتى الآن أيضاً اتجاهات علمانية في العالم الإسلامي. إن الهوة بين العلمانية المفروضة بسلطة الدولة وثقافة الأساس السياسية وغير العلمانية توضح بشكل جزئي أيضاً سبب نجاح الأحزاب الأصولية في يومنا هذا في مناداتها بـ"دولة إسلامية".

لم تتح إمكانية الحصول على تعليم وفق المعايير الغربية إلا لأقلية محدودة من السكان. وهذه الأقلية فقط اعتنقت حقيقةً وجهات نظر علمانية. لكن جزءاً مهما من كل مجتمع إسلامي مازال يتفاعل بصورة إيجابية مع المساعي الرامية إلى الدمج بصورة أكبر بين الدين وكيان الدولة، وترفض علمانية المجتمع جملة وتفصيلاً. بالتأكيد، إن هذا الموضوع ما تزال له وجوه عديدة، لكن الخلفيات التي تم استعراضها هنا، تلعب دوراً محورياً في فهم تعدد جوانب هذه الإشكالية.

نادر هاشمي
ترجمة: عماد مبارك غانم
مراجعة: هشام العدم
الحقوق: نادر هاشمي 2009

-هذه المقالة مقطع من كتاب نادر هاشمي الصادر عن جامعة أوكسفورد، بعنوان: "الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية: نحو نظرية ديمقراطية في المجتمعات الإسلامية".
-تُرجمت مقالة جون لوك "رسالة في التسامح" إلى العربية، وصدرت في مصر عام 1997 عن المجلس الأعلى للثقافة، وترجمتها عن الانجليزية منى أبو سنه.

قنطرة

لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين
الديمقراطية في العالم العربي: الممنوع المرغوب
ليس من الصعب على المواطن العربي العادي أن يلحظ غياب ثقافة الديمقراطية في مجتمعه وسائر المجتمعات العربية. ولكن ما أسباب تعثر التجارب الديمقراطية في الوطن العربي وكيف يمكن للمجتمعات أن تنخرط في العملية السياسية وتستخدم حقها في تقرير مصيرها. الكاتب . الكويتي أحمد شهاب يجيب عن هذه الأسئلة في هذه المقالة.

الاستبداد السياسي في العالم العربي:
لعنة الدكتاتورية وشبح الديمقراطية
على الرغم من بعض المحاولات الضعيفة لإحداث إصلاحات سياسية في بعض الدول العربية وبعد هذه الدول عن إحداث تحول ديمقراطي حقيقي وحقيقة أن القادة العرب في معظمهم من الطاعنين في السن، إلا أنهم استطاعوا أن يبقوا على حكمهم على مدار عقود طويلة. ولكن كيف نجح هؤلاء في التكيف مع المتغيرات الإقليمية والدولية وما مسوغاتهم لرفض الإصلاح والديمقراطية؟ نور الدين جبنون في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات.

برهان غليون:
"الديمقراطية العربية المنتظرة لم تولد بعد"
"التحول نحو أنظمة ديمقراطية هو اليوم شعار مشترك بين جميع التنظيمات السياسية العلنية وهيئات المجتمع المدني والمثقفين على اتساع الأرض العربية." المفكر برهان غليون مدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون في باريس، يتحدث لقنطرة عن الإصلاحات السياسية، والتطورات الديمقراطية في العالم العربي،ومستقبل الإصلاحات والديمقراطية في سوريا.