عن الإسلام السياسي والشعبوية

يصف الفيلسوف السياسي الفرنسي كلود لوفور الديموقراطية بـ «القلق الممأسس»، وهو ما يعني أن الديموقراطية نظام منفتح، وصيرورة تعلم مستمرة. إنها تقف على النقيض من الرؤية الشعبوية للسياسة، لأن الشعبوية لا تقوم فقط على معاداة النخب الحاكمة، بل تعادي التعدد السياسي والمجتمعي في شكل مبدئي، كما أوضح ذلك الفيلسوف السياسي الألماني يان فيرنر مولر في كتابه: «ما الشعبوية؟»، والذي أدين له في هذا المقال بالكثير.

 

 

إن مولر يرى أن الشعبوية تقوم على «تمييز أخلاقي بين الخطأ والصواب»، والشعبويون يزعمون أنهم وحدهم من يمثل «الشعب الحقيقي»، وهذا لا يعني استحالة وجود معارضة شرعية لهم، بل إنه يؤسس، وهو ما يمثل الأمر الأخطر في هذا السياق، لمعيار نهائي للإنتماء السياسي، وما يمثله ذلك من خطر على الصيرورة الديموقراطية والتنوع المجتمعي. فالديموقراطية، كما يرى يان فيرنر مولر، تقوم على «صدف تاريخية»، قد يتخللها أيضاً الكثير من الظلم، لكنها أيضاً نظام قادر على تصحيح أشكال الظلم هذه، و «التفاوض حول معايير جديدة للإنتماء».

 

 

هذا يؤكد أن الشعب من طبيعة «بوليفونية»، ولا يمكن الحديث بصوت واحد عنه، بل الأكثر من ذلك، يمكننا القول إن الشعب يتحول إلى صيرورة، أو كما عبر عن ذلك يورغن هابرماس: «إن الشعب لا يتحقق إلا في صيغة الجمع». إنه «صيرورة مجهدة، يتوجب خلالها التفاوض باستمرار حول الانتماء والنضال من أجله»، يقول يان فيرن رمولر. لكنه يعتبر أن «من يمارس السياسة انطلاقاً من حقيقة أخلاقية مطلقة، ولا يبحث عن الشرعية لدى الذات الجمعية التي هي الشعب، ليس شعبوياً»، ويضرب مثلاً هنا بالإسلامويين الذين يتم ربطهم خطأ في رأيه بالشعبوية، لأنهم يتصفون بالراديكالية ومعاداة النظام الليبرالي، إذ في رأيه أن الإسلاميين «قد يتوجهون إلى كل منسجم، مثلاً «جماعة المؤمنين» في العالم، لكنهم لا ينظرون إلى الشعب كنقيض للنخب الفاسدة، باعتباره «نقياً أخلاقياً»، بل باعتباره هو الآخر فاسداً ويتوجب إيقاظه من سباته أو تخليصه من ظلاله».

 

 

وبالفعل، فإن الإسلام السياسي يمارس السياسة أو يطلب ممارستها انطلاقاً من حقيقة أخلاقية مطلقة، وحتى نكون أكثر دقة، انطلاقاً من حقيقته هو عن هذه الحقيقة المطلقة أو التي يريدها مطلقة. كما أنه لا يمكن اعتباره، مثل الشعبوية، نتاجاً للسياق الديموقراطي وتناقضاته، ولأزمة التمثيل السياسي. إنه الابن الشرعي لأنظمة سياسية مستبدة، فشلت في الوفاء بأهداف حركات التحرر الوطني. وهو في سياسته يمارس نوعاً من التماهي بالمتسلط، لأن بنيته الداخلية غير ديموقراطية.

 

 

لهذا أعتقد، وعلى النقيض مما عبر عنه الفيلسوف السياسي الألماني، أن ما يربط الإسلام السياسي بالشعبوية، أكثر مما يفرق بينهما. فعلى مستوى البرامج السياسية مثلاً، يقدم الإسلام السياسي، شأن الشعبويين، برامج سياسية تبسيطية، ويفرط في الحديث عن ضرورة تخليق السياسة. أجل، يمكننا، لا ريب، أن ننتقد الوضع السياسي القائم باسم القيم الإسلامية السمحة، والتي هي قيم، في نهاية المطاف، كونية، وهو نقد لن نعدمه لدى الحركات اليسارية أيضاً، وإن كانت تأتي به من معين آخر غير الدين، لكن لا يمكننا أن نمارس السياسة باسم الإسلام وندعي أننا ديموقراطيون، لأننا حينها نعمد إلى تحويل الإسلام إلى لاهوت سياسي، في حين أن الإسلام دين، وأن القرآن نفسه يعرفه كدين وليس كسياسة. والسياسة صراع وتفاوض وبراغماتية وتنازلات ومساومات.

 

 

ومن مظاهر الشبه أيضاً بين الإسلامويين والشعبويين، هو ما يمكن أن نصطلح عليه بفكر العودة. فكلاهما يطلب العودة إلى ماضٍ ذهبي معين، فالشعبويون الأوائل طلبوا العودة إلى العالم النقي للفلاحين، وحياتهم القروية، أو باختصار: «العودة إلى الشعب»، والإسلامويون يطلبون العودة إلى «الإسلام»، وكلاهما، الشعب والدين، لا يمكن الحديث عنهما إلا بلغة الجمع، وكلاهما صيرورة وتحول، ومن يطلب الحديث عنهما بلغة المفرد يخطئ الطريق إلى الاثنين، ولا يهدف سوى إلى السيطرة. وكما يدعي الشعبويون «التمثيل الأخلاقي الحصري للشعب»، يدعي الإسلام السياسي أنه ما يمثل الإسلام «الحقيقي». إنه يحوله إلى «ملكية سياسية»، وبلغة أخرى إلى منطق للإقصاء والهيمنة.

 

 

وأحياناً، قد يلتقي الإسلاموي والشعبوي في الشخص نفسه، وهو ما لم ينتبه إليه الفيلسوف يان فيرنر مولر، كما الحال في الأنظمة الديموقراطية التي يحكمها الإسلام السياسي، فيصرح رئيس البلاد مثلاً، ومن دون ذرة خجل: «نحن الشعب. من أنتم؟». لكن خطورة الإسلام السياسي أكبر من خطورة الشعبويين، فهو لا يطلب فقط السيطرة على السياسة، بل على الضمائر أيضاً، لأنه لا يكتفي بإقصاء خصومه ونزع الشرعية الديموقراطية عنهم، بل إن خطورته تكمن في إقصاء خصومه من الهوية الجمعية، باعتبارهم أعداء للدين، وباعتباره الممثل الوحيد الشرعي لهذا الدين.

 

 

إن نقد الإسلام السياسي لن يكتمل من دون نقد لسياق الاستبداد الذي أنتجه، إذ لا يجب أن ننسى أن النظام الإستبدادي لم يتورع عن استغلال الدين لأغراض سياسية، فجاء الرد عليه تسييساً متطرفاً للدين، لكنه تسييس يخرجنا من السياسة التي لم ندخلها، وبسبب الإستبداد، لم ندخلها بعد!