نهاية القذافي...... الانفجار الدموي لمأزق الحكم

يرى الكاتب خالد الدخيل أن نهاية القذافي تعكس حجم المأزق العربي ومرارته، مشيرا إلى أنه كيف ستكون نهاية علي صالح في صنعاء؟ وما هو القدر الذي ينتظر بشار الأسد في دمشق؟ ومتى يتصالح العالم العربي مع مفهوم الحكم ويخرج من هذه اللعبة الدموية؟



مشاهد اللحظات الأخيرة من حياة العقيد معمر بن محمد أبو منيار القذافي محزنة جداً. وهذا ليس لأن الستار أسدل أخيراً على حكم العقيد، وإنما لرمزية ما حصل في المشهد، ولدلالته الثقافية التي تتجاوز العقيد، وتتجاوز المساحة الجغرافية والتاريخية لليبيا. ها هو القذافي في لحظاته الأخيرة يقع أسيراً في قبضة بعض من شباب الثورة. وجهه ملطخ بالدم، شعره أشعث، وعيناه زائغتان. تبدو على ملامحه معالم خوف مشوب بالاستسلام للحظة النهاية. استوعب عندها نهايته السياسية، وأدرك في الوقت نفسه أنه دلف إلى أفق المجهول، وأن القدر خرج من بين يديه تماماً. في المشهد كان هناك شخص (أحد الثوار) يُكبر من الخلف بصوت مرتفع جداً، وبتشديد واضح "الله أكبر... الله"، معبراً بذلك عن دهشته، وامتنانه لسقوط العقيد أسيراً في أيديهم. يختزل المشهد بعفوية معبرة شيئاً مهماً عن حالة الثقافة السياسية العربية.


في لقطة من المشهد يلتفت القذافي إلى الشباب الذين كانوا يمسكون به ويجرجرونه نحو السيارة، ليقول لهم: لا تقتلوني يا أبنائي. هكذا انتهت تجربة العقيد: يستجدي الإبقاء عليه حياته. كم واحد استجدى العقيد في عز سلطانه؟ كانت تلك هي الجملة الأخيرة التي تلفظ بها بعد 42 سنة من الحكم المطلق. وهي جملة تحمل في طياتها إذعاناً بالهزيمة. في لقطة أخرى، يقول القذافي: "حرام عليكم"، في ما يبدو أنه شكوى من سوء معاملة. تقول الأخبار إن ما حصل كان أسوأ من ذلك: أسر القذافي حياً، ثم قتل على يد الثوار! ما الذي حدث؟ وهل قتل الرجل عمداً، وللثأر؟ ما كان يليق بالثوار أن يسمحوا لأنفسهم بالاستسلام لعواطفهم في لحظة حرجة ومفصلية مثل هذه. جيم سواير، الذي قتلت ابنته في تفجير لوكربي، قال على إحدى محطات التلفزة البريطانية، إنه شعر بالحزن للطريقة البشعة التي تم بها سحل القذافي. هل كان سواير أكثر عقلانية من الثوار؟ من المهم أن تتحرر ليبيا من حكم القذافي. لكن الأهم أن تتحرر من الثقافة والقيم السياسية التي أتت بحكم القذافي.

نهاية دموية

الصورة د ب ا
من خطابات القذافي: المواطن العربي تخطانا، والنظام الرسمي العربي الآن يواجه تحديات شعبية متزايدة، ولن تتراجع هذه التحديات حتى تصل إلى هدفها.

​​


جاءت نهاية العقيد في مدينة سرت التي ولد فيها. وفي هذه المدينة انعقدت آخر قمة عربية قبل الربيع العربي. القذافي قال في خطابه أمام القمة: "المواطن العربي تخطانا، والنظام الرسمي العربي الآن يواجه تحديات شعبية متزايدة، ولن تتراجع هذه التحديات حتى تصل إلى هدفها... المواطن الآن متمرد ومتربص... عنده قراره، والجماهير عندها قرارها". هل كان العقيد يستشعر شيئاً في الأفق؟ استمر في حديثه قائلاً: "إذا قررنا أي شيء لا ترضى عنه الجماهير، لن يكتب له النجاح، ولن يحترم. والجماهير ماضية في طريقها، طريق التحدي للنظام الرسمي". إذا كان هذا ما كان يفكر فيه العقيد قبل أقل من عام على انفجار الثورة، فلماذا كانت مواجهته لها بهذه الدموية، ولماذا افتقد حسه السياسي؟ ربما أن العقيد كان يمارس في القمة، كعادته، شيئاً من لغو القول لجلب الانتباه.


ما حصل من العقيد خلال أربعين سنة، وما حصل له في لحظاته الأخيرة يقول شيئاً مؤلماً ومحزناً عن الثقافة السياسية العربية. الدم هو الرمز الأبرز في المشهد، وكذلك الثأر، كما يبدو. والمحزن أن هذا ليس استثناء. حصل من الرئيس وللرئيس العراقي السابق، صدام حسين، وإن في سياق مختلف، شيء مشابه في دلالته. عام 1986، كانت مذبحة الرفاق في عدن. وهذه الأيام الممارسات الدموية لأجهزة الأمن السورية واليمنية ضد المتظاهرين. لم تعرف الثقافة السياسية العربية علاقة طبيعية بين الحاكم والمحكوم. دائماً ما تتسم هذه العلاقة بين طرفي العملية السياسية بالخوف المتبادل، أو الطمع المريب والمكر المبطن، والنفاق الفاقع. وهي بذلك علاقة غير طبيعية، تتأسس على القمع، وتتغذى من التكاذب المتبادل. وبما أنها كذلك فهي دائماً تنتظر لحظة مواجهة حاسمة، تتضمخ فيها، وتتعمد بالدم. هي علاقة ليست طبيعية، لكنها مع ذلك امتدت لأكثر من 14 قرناً من الزمن. وهذا شيء يبعث على الحزن المكثف والمقيم. يعود الشكر في ذلك لثلاثة عوامل رئيسية: قابلية الإنسان للصبر، وقدرته على التعايش مع الأمل، والمؤسسة الأيديولوجية (الدينية أو غيرها)، ثم المؤسسة الأمنية.

 

لم تتأسس علاقة الحاكم العربي بالمحكوم أبداً على مبدأ الحقوق والواجبات، والقانون، والحريات، أو على أساس من عقد ملزم للطرفين. علاقة الحاكم العربي بالحكم تقوم على الدم. وعلاقة المحكوم العربي بالحكم تتأسس على الخوف من الدم. وما حصل في ليبيا، ويحصل في سورية، وفي اليمن، من الشواهد الحية والمؤلمة على ذلك. السؤال المحير: لماذا يصر الحاكم العربي على البقاء في الحكم حتى ولو على دماء الناس، ودمار المدن؟ هذا سؤال قديم، لكن يعاد طرحه بنفس مختلف، وبإصرار غير معهود. بعبارة أخرى، إلى متى تبقى إشكالية الحكم العربي من دون حل؟

الربيع العربي

الصورة دويتشه فيله
أكثر من اربعة عقود حكم القذافي خلالها ليبيا بالحديد والنار

​​


في زمن الربيع العربي، بدأت معالم إجابة شعبية على ذلك السؤال. بدأت تتعرض علاقة الحاكم بالمحكوم منذ الشهر الأخير من السنة الماضية لعملية انفجار، أو تفجير من الداخل. والانفجار لا يحصل عادة إلا نتيجة للضغط. الهدف هو إعادة صياغة هذه العلاقة، بحيث تغادر ما كانت عليه في إلزاماتها وإكراهاتها منذ قرون. تقول الناس بكلام واضح لا تخطئه البصيرة: لم تعد هذه العلاقة مقنعة، ولا مفيدة، ولا ملزمة بغض النظر عما تقوله المؤسسة الدينية، أو الأيديولوجية، ومهما فعلت المؤسسة الأمنية لهذا النظام السياسي العربي، أو ذاك. نحن أمام ثورة المحكوم على الحاكم. للمرة الأولى منذ زمن الخليفة الراشدي الثالث، عثمان بن عفان، يجد الحاكم نفسه في موقف الدفاع عن نفسه أمام الناس. وإذا كان عثمان لجأ إلى المجادلة والإقناع مع خصومه، فإن حكام اليوم لجأوا إلى الرصاص والقتل. لم يستوعبوا ما يحصل، أو لا يريدون استيعابه. ماذا عن الحاكم الذي لم تتعرض علاقته بالمحكوم لتجربة التفجير نفسها؟ هناك من تجاوز في العالم العربي الصيغة التقليدية لإكراهات علاقة الحاكم بالمحكوم. ولا بد أن هناك من يهجس بممارسة التجاوز نفسه.


عندما قاد انقلاب "الفاتح" من أيلول (سبتمبر) على النظام الملكي عام 1969، كان سن معمر القذافي لا يتجاوز 27 سنة. كان بإمكانه أن يجترح تجربة سياسية جديدة تختلف عن السائد حينها. لكن لم يكن باستطاعة القذافي الخروج عن سياق ثقافة نشأ عليها. كان مثاله الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر. وهذا كان قائداً مليئاً بالأحلام والشعارات السياسية، وفقيراً في فلسفة الحكم، ومبادئ حرية الفرد، وحقوق المواطن. من السهل وضع مسؤولية ما انتهى إليه القذافي على طبيعة المرحلة التاريخية التي ينتمي إليها. وهذا فيه شيء من المنطق، وكثير من التبسيط. هناك شاب آخر جاء إلى الحكم في بلد عانى من الحرب الأهلية، وعدم الاستقرار لعقود طويلة. أقصد الرئيس علي عبدالله صالح. استلم الحكم في 1974. ثم تحول إلى واحد من أبرز رموز الديكتاتورية والانتهازية العربية.

هناك نموذج آخر لشاب استلم الحكم مع بداية القرن الحادي والعشرين: بشار حافظ الأسد. هذا شاب تعلم في بريطانيا طب العيون، وأخذ بتكنولوجيا العصر الحديث. توهم كثيرون أنه سيكون مختلفاً عن أبيه، وسيدشن عصراً إصلاحياً جديداً في سورية. فات هؤلاء أن مجيئه إلى كرسي الحكم كان بالتوريث، وهو سابقة خطيرة ومقلقة في هذا العصر، وفي نظام جمهوري لا يقر ذلك. لا يعيد الأسد تجربة القذافي وحسب، بل يتفوق عليه في عنف وقسوة الحل الأمني ضد شعبه. والأرجح أن الطريقة التي انتهى بها القذافي ستدفع بالنظام السوري إلى التمسك بطريقة أكثر انتحارية، على رغم أنه تراجع في اليوم التالي لمقتل القذافي وقبل استقبال وفد الجامعة العربية. بدوره يحاول علي عبدالله صالح تطبيق الحل الأمني نفسه، وإن بأسلوب أكثر مراوغة.


تعاقب الأجيال على أرض الجغرافية العربية الواسعة لم يغير كثيراً في ثقافتها السياسية. مع حركة الزمن: سقطت دول وإمبراطوريات، وقامت أخرى. نشأت مدن وتلاشت هنا وهناك، وتصدعت قبائل وقامت مكانها حواضر. تغير العالم، وغادر محطاته القديمة، إلا صيغة الحكم العربية: بقيت كما هي، تتوالد مع الأيام والقرون، ومعها تتناسل تبريراتها وتخريجاتها السياسية والدينية. يتغير كل شيء، إلا صيغة الحكم، وعلاقة الدولة بالمجتمع. وهذا ضد منطق التاريخ، وقواعد الاجتماع. ثم جاء الربيع العربي على حين غرة. افتقد بعض الحكام لحسهم السياسي، ولذكائهم الغريزي. تلبست كل واحد منهم حالة من المكابرة المأسوية. بدأوا يتساقطون واحداً بعد الآخر. لا أحد يبدو أنه يستطيع تعلم شيء مما سبقه. نهاية القذافي المحزنة تعكس حجم ومرارة المأزق العربي. كيف ستكون نهاية علي صالح في صنعاء؟ وما هو القدر الذي ينتظر بشار الأسد في دمشق؟ وقبل هذا وبعده: متى يطبع العالم العربي مع إشكالية الحكم، ويخرج من هذه اللعبة الدموية؟

 

خالد الدخيل

حقوق النشر: صحيفة الحياة اللندنية 2011