من ترف التنظير إلى اشتراطات الواقع

يطالب الإعلامي والباحث الأكاديمي خالد الحروب بأن يتبنى الإسلاميون وبوعي وإدراك منهج المشاركة في الحكم وليس السيطرة عليه من خلال التوافق على قواعد اللعبة الديموقراطية والتي أحد أسسها الرئيسية الحفاظ على حقوق الأقليات وحرياتها بالتوازي مع التعبير عن رأي الأغلبية.

الصورة د.ب.ا
"مرحلة الانتقال من الثورة إلى السياسة والحكم لا تمثل دورة تأهيلية للأحزاب والإسلاميين وحسب، بل وللمجتمعات أيضاً"

​​

اعتبر الإسلاميون طويلاً ولعقود من السنين، وعن حق في حالات كثيرة، أن القمع السلطوي حرمهم من المشاركة السياسية وتطبيق شعاراتهم ونظرياتهم. لم تتمكن جماهير مؤيديهم من اختبار كفاءتهم في الحكم وفي تحويل المثال المطروح إلى حقيقة على الأرض. وبسبب عدم قدرة الناس على اخضاع الإسلاميين لاختبار اهلية السياسة والحكم، بل وفكرة خلط الدين في السياسة بشكل عام، فإن الإسلاميين انفسهم تمكنوا من بناء شعبية كبيرة في معظم البلدان العربية مستغلين أمرين: الأول التموضع في موقع "المظلومية" التي تكرست بعد حرمان إسلاميي الجزائر من فوزهم بالانتخابات عام 1991، والثاني التمتع بترف رفع سقف الحلول المثالية إلى الحد الأقصى، إذ ليست هناك أي آلية لاختبارها عملياً. وهكذا وفي الوقت الذي تم فيه اختبار كل القوى السياسية والأيديولوجية في دولة ما بعد الاستقلال العربية، فإن الإسلاميين بقوا وحيدين من دون تجريب. بل استغلوا فشل الأيديولوجيات والحلول بتنويعاتها الاشتراكية والقومية للمناداة بالشعار الغامض لكن الفعال شعبوياً: "الإسلام هو الحل". وبذلك استطاع الإسلاميون نحت واحتلال صورة المُخلّص في المخيلة الشعبية، فهم من سوف يأتي دوره بعد انهيار جميع أنواع السياسات والأيديولوجيات ويحققوا في بلدانهم ما عجز عن تحقيقه كل الآخرين.

هذه الصورة النسقية العامة تعرضت لاختلال كبير في كل حالة وصل فيها الإسلاميون إلى الحكم. فمن إيران، إلى السودان، إلى افغانستان، إلى غزة، لم يتجسد المثال المرسوم بنقاوته المفترضة على الأرض. وفي كل حالة من هذه الحالات سيقت مسوغات وأسباب عُزي إليها هذا الفشل أو ذلك التعثر في محاولة مستميتة للحفاظ على صورة «النقاء» والنجاح المحتوم فيما لو غابت تلك المسوغات والأسباب التي حالت دون تطبيق الإسلاميين مشروعاتهم. فات وما زال يفوت كثيرين من الإسلاميين أن طريق السياسة تعج بالعوائق وليست مفروشة بالورود، وأن اليوم الذي ينتظره الإسلاميون، أو اي حزب آخر، وفيه تكون كل الأمور مهيأة لتسلمهم الحكم لن يأتي. السياسة والحكم هما بالتعريف مغالبة المعوقات والمنافسين واجتراح السبل وسط غابة من الظروف والأطراف التي هدفها إفشال من هو في الحكم. والشكوى من أن «الظرف» لم يسمح بأن يقدم الإسلاميون نموذجهم هي شكوى لا علاقة لها بالسياسة ومنبعها مثالي أيضاً يفترض قدوم ذلك «الظرف» الموهوم الذي يتيح للإسلاميين تطبيق ما يريدون.

مبدأ المشاركة السياسية

الصورة ا.ب
سقوط نظام مبارك ومعه سيناريوهات التوريث يتطلب من الإسلاميين المشاركة السياسية التي تعني حكومات ائتلافية وتوافقية

​​

في كل الأحوال دخل الإسلاميون، كما الجميع، مرحلة جديدة الآن وبخاصة في مصر وتونس بعد انتصار الثورتين هناك. وبضربة "ثورية" واحدة أزيحت قائمة من العقبات التي وقفت دوماً في وجه الإسلاميين والمشاركة السياسية، وأوقفتهم أمام مواجهة الواقع وحرية العمل السياسي دفعة واحدة. رد الفعل الأولي في الحالتين، وفي مرحلة فوران الثورة، كان حكيماً ويجب أن يُسجل للإسلاميين، ذلك انهم لم يتصدروا الصورة، ولم يزعموا قيادتها، بل حافظوا على بقائهم جزءاً من الثورة لكن ليس في واجهتها الأساسية. وقد أدى هذا إلى حشد تأييد منقطع النظير لثورتي تونس ومصر داخلياً وخارجياً. يُسجل للإسلاميين أيضاً إعلانهم في كلتا الحالتين انهم لن يترشحوا للانتخابات الرئاسية ولن يخططوا للحصول على أغلبية في الانتخابات التشريعية. تُطمئن هذه الإعلانات أطرافاً عديدة داخلية وخارجية وتوفر مساحة وأوكسجيناً ضروريين للعملية الديموقراطية كي تترسخ من دون ارتجاج ضخم قد يعيقها كلياً أو يغري أطرافاً أخرى، كالجيش مثلاً، للتدخل بهذا الشكل أو ذاك.
في السنوات العشر القادمة وفي الحالتين وفي كل حالة عربية تنتصر فيها ثورة يتوجب على الإسلاميين أن يتبنوا وبوعي وإدراك غير متردد منهج المشاركة في الحكم وليس السيطرة عليه. المشاركة في الحكم تعني حكومات ائتلافية وتوافقية، وهذه لها علاتها ومكامن ضعفها بكل تأكيد اهمها التهرب من المسؤولية فكل طرف فيها سوف يلقي باللائمة على الطرف الآخر في حال الفشل. لكن التجريب في حكومات ائتلافية يعني انخراط جميع الأطراف والأحزاب في عملية تأهيل وتدريب ديموقراطي طويلة نسبياً تعدّهم لأي مرحلة قادمة يسيطر فيها على الحكم الحزب الظافر بأغلبية انتخابية. في الوقت الراهن قد يتخطى الطوفان الديموقراطي وآفاقه المتسعة والحريات التي جاء بها قدرة الأحزاب، بما فيها الإسلاميين، على الهضم والتعامل الحكيم. وعندما يعسر الهضم وتفيض الحرية عن قدرة الاستيعاب لمن كان قد فقدها عقوداً طويلة فإن التوتر قد يسيطر على طريقة الحكم ورد الفعل فيما لو تم الاستئثار بالحكم والسيطرة عليه بالمطلق.

مرحلة الانتقال من الثورة إلى السياسة والحكم لا تمثل دورة تأهيلية للأحزاب والإسلاميين وحسب، بل وللمجتمعات أيضاً وأفرادها المحمّلين بمطالب وتوقعات كبرى لا تني تتضخم على رافعة الثورة التي توسع تعريفاً الطموحات والآمال. تتكون حاجة ماسة وضرورية لإنزال الناس بهدوء ومن دون ارتجاجات أيضاً عن شجرة الثورة الجذرية، وتنمية الوعي الواقعي والعقلاني لديهم بأن ليس في وسع حكم ما بعد الثورة قلب البلد إلى جنة وارفة مباشرة بعد التخلص من النظام البائد. وهذا يتطلب نهجاً ووعياً في التسيّس العام يختلف عمّا تعودت عليه "الجماهير" من ركض وراء الشعارات القصوى التي يرفعها هذا الطرف أو ذاك. جوهر هذا الوعي هو الممكنات السياسية والاجتماعية وحسابات الأرباح والخسائر، وليس التعلق باللاممكنات الأيديولوجية. وامتلاك وعي جوهره التسيس الرمادي المضاد للقولبة الأيديولوجية الحاسمة بين الأسود والأبيض. عملية ليست سهلة على الإطلاق، وقد تطلبت من إسلاميي تركيا المحدثين، ممثلين بأردوغان وغل وأوغلو، القطع مع الجيل الأيديولوجي السابق ومنظره الرئيس نجم الدين اربكان.

مسؤولية الإسلاميين

صورة أرشيفية، الصورة د ب ا
"غابت الأيديولوجيا عن الحركة الثورية وشبابها في مصر وتونس وهو ما سهّل نجاحها ووسع نطاقها"

​​

في الحالة العربية، المصرية والتونسية هنا، كما في معظم حالات الثورات العربية قيد الإنجاز، غابت الأيديولوجيا عن الحركة الثورية وشبابها وهو ما سهّل نجاحها ووسع نطاقها. كانت تلك الثورات ونظيراتها القائمة الآن سياسية ومسيسة حتى النخاع، لكنها لم تكن مؤدلجة بأي حال. غياب البعد الأيديولوجي كان مركزياً لجهة خفض سقف التوقعات التي تنافس الأيديولوجيات في رفعها ونمذجتها، وعندما تفشل في الوصول إليها تبطش بالجماهير بكونها لم ترتق إلى الأفق الأيديولوجي بعد. على ذلك يحتاج الإسلاميون، كما غيرهم، إلى الهبوط من ترف الأيديولوجي إلى اشتراطات الواقعي، وهو ما توفره لهم مرحلة المشاركة في الحكم لا السيطرة عليه.

مسؤولية الإسلاميين على وجه التحديد كبيرة وتاريخية في إنجاح مرحلة ما بعد الاستبداد في البلدان التي تحررت منه. وهي مسؤولية في ثلاثة اتجاهات: الأول أن لا تقع هذه البلدان في استبداد "إسلاموي" من نوع جديد يستنسخ التجربة الإيرانية بشكل أو آخر، والثاني يتمثل في أن لا تقع هذه البلدان في وحل الفوضى وعدم الاستقرار لسنوات طويلة خلال الصراع والتنافس مع القوى الأخرى، بشكل يقوي منطق الاستبداد الذي لا زال قائماً في حالات كثيرة. عند ذاك سوف تُعاد الحياة إلى المقولة التقليدية التي تمثل أساس الوجود لأي استبداد في التاريخ وهي تحقيق الاستقرار. يجب كسر المعادلة التي تشترط الاستبداد لتحقيق الاستقرار في المنطقة العربية والإسلامية. نعم يمكن تحقيق استقرار وازدهار في ظل خلاف وتعددية وديموقراطية كما هي الحال في الكثير من دول العالم.

أما الاتجاه الثالث فيتمثل في لجم الإسلامويات المتطرفة بخاصة التيارات السلفية كما هي الحال المتصاعدة في مصر، والتي يضيق صدرها بالتعددية والدمقرطة والرأي الآخر. هذه التيارات وجماعاتها وخطاباتها المتطرفة تنشط الآن ومن موقع امتلاك الحقيقة المطلقة، وهي تمارس استعلائية مدهشة في النظر إلى الآخرين بمن فيهم الإسلاميون. من هنا تنبع أهمية التوافق على قواعد اللعبة الديموقراطية والتي احد أسسها الرئيسية الحفاظ على حقوق وحريات الأقليات بالتوازي مع التعبير عن رأي الأغلبية. لا يحقق للأغلبية أن تتحكم بحريات وحقوق الأقليات بمسوغ أنها الأغلبية الانتخابية، بخاصة في مجال الحريات الفردية والمسلكية والتعبير عن الرأي. كل ذلك وكثير غيره، ومرة ثانية، يتطلب فترة التأهيل على التفكير والممارسة الديموقراطية وقبول الرأي المخالف من طريق المشاركة في الحكم في المرحلة المقبلة وليس التحكم فيه.

خالد الحروب
حقوق النشر: قنطرة 2011

قنطرة

حدود الإصلاح في المملكة العربية السعودية:
الجلوس على فوهة بركان
الحكم في المملكة العربية السعودية يقوم على تحالف تقليدي بين علماء الدين الوهابيين والأسرة الحاكمة منذ القرن الثامن عشر. هذا التحالف يقصي المواطنين الشيعة ويغلق الباب لذلك أمام أي إصلاح حقيقي يزيل التصدعات الدينية والاجتماعية في السعودية وفق تحليل الخبير الألماني المعروف غيدو شتاينبيرغ.

قراءة في نتائج الثورات العربية:
عالم متوسطي جديد؟
يتساءل مصطفى التليلي، مؤسس ومدير مركز جامعة نيويورك للحوارات، في هذه المقالة فيمَ إذا كان نجاح الثورتين التونسية والمصرية بالإطاحة بأنظمة ديكتاتورية ومسيرات التغيير في العالم العربي ستُخرج في النهاية كيانا متوسطيا يتغذى على قيم الديمقراطية والتسامح والآمال المشتركة؟

ربيع الشعوب العربية:
التغيير يتقدم... وإن تعددت التجارب
يطالب الكاتب جورج سمعان في هذه المقالة الشعوب العربية وهي في مسيرة التغيير أن تحافظ على خريطة بلدانها، والاّ تقع فريسة التناحر الطائفي والمذهبي والجهوي، لتكون قادرة على أداء دور مركزي في رسم صورة النظام الإقليمي الجديد.