من قوة إقليمية إلى قوة عالمية

وسَّعت تركيا في الأعوام الماضية نفوذها في الشرق الأوسط بصورة لبقة. ومن الممكن لتركيا أن تساعد الاتحاد الأوروبي في الدفاع عن مصالحه في المنطقة وكذلك يجب على أوروبا أن تقرّ أخيرًا بالفرص التي يتيحها المزيد من التعاون مع تركيا حسب رأي أستاذ العلاقات الدولية في أنقرة، حسين باجي.

صورة الأستاذ حسين باجي
"لتركيا وجهان؛ واحد شرقي والآخر غربي ويجدر استثمار هذا في عملية السلام الشرق أوسطية"

​​تتَّبع تركيا الآن ومنذ ستة أعوام سياسة خارجية تختلف اختلافًا كبيرًا عن السياسة الخارجية التركية التقليدية. "تركيا في طريقها للتحوّل من قوة محلية إلى قوة عالمية"، مثلما أعلن وزير الخارجية التركي علي باباجان في الـ16 من تموز/يوليو أثناء حضور حوالي مائة وعشرة سفراء أتراك جاءوا من جميع أرجاء العالم للاجتماع في أنقرة.

وكذلك تحدَّث الوزير علي باباجان في كلمته التي تمت متابعتها في جميع أرجاء تركيا باهتمام كبير أيضًا عن التحدّيات الجديدة المحلية والدولية التي تواجه تركيا. وتركيا تبدي استعدادها للاضطلاع بالمسؤولية السياسية وكذلك الأخلاقية لمواجهة هذه التحدّيات، حسب تعبير باباجان الذي أضاف معلنًا في الوقت نفسه أنَّ تركيا سوف تتّبع أيضًا في المستقبل خطّتها السياسية الخارجية ذات الأبعاد المتعدّدة وستحافظ في المستقبل على علاقاتها الدبلوماسية مع كلِّ الممثِّلين الدوليين - من دون أن تتخلى في ذلك عن هدف نيل عضوية الاتحاد الأوروبي.

تركيا - سلطة مدنية جديدة

غير أنَّ تركيا لن تستمد - حسب تعبير الوزير - أهميتها السياسية بالدرجة الأولى من نفوذها العسكري؛ بل إنَّ تركيا تسعى إلى المزيد من العمل في المستقبل باعتبارها "سلطة مدنية". والمهندس الرئيسي للسياسة الخارجية التركية الجديدة، الأكاديمي والأستاذ الجامعي أحمد داود أوغلو الذي يعتبر ممثلاً للمدرسة الواقعية - يؤدّي أدوارًا عديدة منها دور رئيس مستشاري رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان. وأحمد داود أوغلو يعمل من أجل ترسيخ نفوذ تركيا باعتبارها "قوة ناعمة" في السياسة العالمية؛ ولكن في الوقت نفسه يسعى داود أوغلو إلى حصول تركيا على هذا النفوذ من خلال قيامها بدور الوسيط.

ولكن يبدو أنَّه من الصعب للغاية على تركيا كسب ثقة جميع الأطراف في دور الوسيط الذي تؤدّيه. وتجلى ذلك في مناسبات منها عندما دعت الحكومة التركية في شهر شباط/فبراير وفدًا من حركة حماس إلى زيارة تركيا، على الرغم من احتجاجات الحكومة الإسرائيلية والاتحاد الأوروبي. وكذلك تم في تركيا نفسها توجيه انتقادات شديدة لهذه السياسة التي تنتهجها الحكومة التركية واعتبرت مناورة دبلوماسية جريئة.

وبعد عامين من هذه الزيارة التي تعدّ موضوع خلاف يمكن للمرء استنتاج أنَّ حركة حماس استغلت تركيا كمنصة لقفزة سياسية وأنَّ الحكومة التركية سقطت على هذا النحو ضحية لسياستها الخاصة؛ فعلى الرغم من محاولات الوساطة فإنَّ حركة حماس لم تنحرف منذ ذلك الحين سنتمترًا واحدًا عن سياستها المتعلقة بإسرائيل. أما الحكومة التركية - التي تقيم تقليديًا اتصالات ممتازة مع إسرائيل - فقد عقدت آمالها في هذا الصدد على "ترويض" حركة حماس. الأمر الذي كان خطأ كبيرًا مثلما اتّضح ذلك فيما بعد.

استثمارات كبيرة في سياسة الشرق الأوسط

وعلى الرغم من مثل هذه الخطوات الخاطئة فقد ازداد وزن تركيا السياسي في الشرق الأوسط زيادة كبيرة؛ ليس فقط لأنَّ تركيا وسوريا - اللتان تعتبران تقليديًا عدوين - قد أقامتا في الماضي القريب علاقات صداقة مع بعضهما. وسوريا تعدّ فيما يتعلق بالشرق الأوسط دولة إستراتيجية - ومن دون دمشق لا يمكن في المنطقة تحقيق تقدّم في مفاوضات السلام.

لقد استثمرت تركيا مؤخرًا استثمارات كبيرة في سياسة الشرق الأوسط؛ فهكذا طوّرت تركيا مع الدول العربية علاقة سياسية واقتصادية وثقافية وطيدة جدًا - الأمر الذي يشكِّل تحوّلاً كبيرًا في سياسة تركيا التقليدية. وكذلك لم تتمتَّع تركيا في تاريخ الشرق الأوسط الحديث على الإطلاق بمثل هذا التقدير والاحترام مثلما هي الحال في يومنا هذا؛ إذ إنَّ مجالها السياسي أصبح أكبر بكثير عما كان عليه منذ انهيار الدولة العثمانية.

غول وبيريس وعباس، الصورة: أ.ب
تركيا الديمقراطية تعتبر نموذجًا لكلِّ العالم الإسلامي

​​وكذلك شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية تقلباتها وتوتّراتها، بيد أنَّ إسرائيل كانت تعلم وكذلك تركيا أنَّ كلا الدولتين تعتبران "شريكين طبيعيين" في هذه المنطقة، مثلما وصف ذلك مرّة هنري كيسنجر. ولكن الآن تقوم تركيا أيضًا وللمرّة الأولى بأداء دور فعّال في محادثات السلام الإسرائيلية الفلسطينية. وفي ذلك شكّل ظهور شمعون بيريز سوية مع محمود عباس أمام الجمعية الوطنية التركية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي اللحظة المهمة التي أكَّدت على مكانة تركيا باعتبارها وسيطًا في عملية السلام. وبعد ذلك بفترة قصيرة اضطلعت تركيا أيضًا بدور الوسيط ما بين سوريا وإسرائيل. وبهذه الخطوة أصبحت تركيا بلدًا دبلوماسيًا جديدًا.

وفي البداية لم يكن المعلّقون والخبراء في داخل تركيا وفي خارجها مقتنعين بأنَّ تركيا قادرة على أداء دور الوسيط باعتبارها "قوة ناعمة" بنجاح. ولكن على كلِّ حال لقد أثبت هذا الاعتقاد في تلك الأثناء عدم صحته.

تركيا باعتبارها "شريكًا موثوقًا به"

وفي حين كانت المفاوضات السورية الإسرائيلية تسير بصورة شكلية في أنقرة، اجتمع كبير مفوّضي شؤون السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، خافيير سولانا مع كبير المفاوضين النووين الإيرانيين، علي لاريجاني في أنقرة في شهر نيسان/أبريل 2007. وبعد ذلك بفترة قصيرة بدأت تركيا أيضًا في لعب دور الوسيط بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. ومن الجدير بالملاحظة أنَّ تركيا تعتبر من قبل جميع أطراف النزاع "شريكًا موثوقًا به".

والاتحاد الأوروبي يستفيد أيضًا من هذا الدور الجديد الذي تؤدّيه تركيا. وذلك لعدّة أسباب من بينها أنَّ نظام تركيا الديمقراطي قد نجح في تخطّي الاختبارات الشديدة التي مرّت بها تركيا في الأعوام الماضية. وعليه فإنَّ تركيا الديمقراطية تعتبر نموذجًا لكلِّ العالم الإسلامي. وكذلك تعمل جهود تركيا المستمرة لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي على إظهار تركيا في عيون دول الشرق الأوسط بمظهر دولة تستحق المزيد من الثقة.

وبناءً على النمو الاقتصادي القوي الذي حقّقته تركيا في الأعوام الماضية، فقد أصبحت تركيا قوةً اقتصاديةً محليةً يبلغ دخلها القومي الخام سنويًا نحو سبعمائة مليار دولار. وكذلك سوف يبقى الشرق الأوسط لفترة غير بعيدة محافظًا على أكبر مخزون من النفط والغاز في العالم. غير أنَّ المشاكل الأمنية والأزمات في منطقة الشرق الأوسط سوف تظلّ تشكِّل مثل ذي قبل عاملاً من عوامل الخطر. ومن الممكن لتركيا أن تساهم في الدفاع عن مصالح الاتحاد الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط، وذلك من خلال نفوذها المتنامي في هذه المنطقة.

قيم ثابتة جديدة في العلاقات الدولية

تمثِّل تركيا - إذا استثنينا إسرائيل - الديمقراطية والسوق الاقتصادية الوحيدتين الناجحتين في جميع أرجاء منطقة الشرق الأوسط. وفي هذا الصدد لا يُطرح السؤال عمن يحتاج هنا إلى من، بل السؤال المطروح هو كيف يمكن لتركيا والاتحاد الأوروبي المساهمة سوية في تسوية النزاعات في منطقة الشرق الأوسط وفي نموّها الاقتصادي. إذ نشأت من خلال هذه الأوضاع الجديدة قيم ثابتة جديدة للغاية في العلاقات الأوروبية التركية.

ولا يتعلّق الأمر في مسارات التطوّر الجديدة التي تمرّ بها السياسة الخارجية التركية ببدائل عن عضوية الاتحاد الأوروبي المحتملة. بل إنَّ هذه التطوّرات تمثِّل انتقالاً إلى عصر سياسي جديد يتميَّز بمسار إضافي مُكمِّل. ومثلما كانت الحال لدى الحكومة التركية السابقة فإنَّ الحكومة التركية الحالية برئاسة رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان لا ترى كذلك بديلاً عن السياسة الودّية تجاه الاتحاد الأوروبي. بل على العكس من ذلك - إذ يبقى الهدف المسيطر على الدولة التركية هو أن يتم احترامها كعضو في النادي الغربي. كما أنَّ تركيا سوف تبقى لفترة يمكن تكهنها تسير على النهج الغربي - وبفكرة تجديد العالم الإسلامي وتحديثه، هذه الفكرة التي تعود بالمناسبة إلى القرن التاسع عشر.

لحظة مناسبة لتقديم تنازلات

ولكن لا بدّ في الختام من التذكير بأنَّ العالم الإسلامي يعتبر في وسط فترة تحوّل مثيرة، وأنَّ تركيا سوف تتابع هذا التحوّل أيضًا في المستقبل بصفتها ممثِّلاً مهمًا وسوف تشارك في تشكيله - سواء مع الاتحاد الأوروبي أو من دونه. ولكن من الواضح أيضًا أنَّ هذا التحوّل يتشكِّل بصورة أفضل بكثير بمساعدة أوروبا.

وفي الحقيقة يوجد لتركيا وجهان؛ واحد شرقي والآخر غربي. وبالنسبة لأوروبا فإنَّ هذه الفترة تعتبر أيضًا "فرصة مناسبة" من أجل الاستمرار في توثيق العلاقات مع تركيا باعتبارها شريكًا، وربما أيضًا في يوم ما باعتبارها عضوًا يحظى بكامل عضوية الاتحاد الأوروبي! ومن الأجدر بأوروبا أن لا تفوِّت هذه الفرصة المواتية.

حسين باجي
ترجمة: رائد الباش
قنطرة 2008

يعمل الدكتور حسين باجي أستاذًا للعلاقات الدولية في جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة ونائبًا لرئيس مركز الدراسات الأوروبية في الجامعة ذاتها. ونُشرت له العديد من الكتب والمقالات حول السياسة الخارجية التركية. وبالإضافة إلى أنَّه يعمل معلّقًا تلفزيونيًا ويكتب عمودًا أسبوعيا لصالح صحيفة ديلي نيوز التركية في أنقرة.
قنطرة

تعليق لجيم أوزديمير:
"انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يصب في مصلحة أوروبا"
إنَّ انضمام تركيا المزمع إلى الاتحاد الأوروبي يدعو إلى التساؤل عن ماهية أوروبا، حسب رأي النائب في برلمان الاتحاد الأوروبي، جيم أوزديمير. وأوروبا بالنسبة له هي مشروع سلام ينبغي أن لا يتم تحديدها في البدء من خلال إرثها المسيحي الغربي.

فشل حظر حزب العدالة والتنمية:
تركيا تتنفَّس الصعداء
فاجأت المحكمة الدستورية التركية المراقبين برفضها طلب حظر حزب العدالة والتنمية. وبهذا حصل رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان على فرصة ثانية لإنهاء الصراع الدائر على السلطة بين العلمانيين والإسلاميين. كما شكَّلت المسألة الكردية عاملاً مهمًا في قرار المحكمة. تعليق من ديلَك زابتچي أُوغلو.

موروث أتاتورك اليوم:
الإسلام والكِماليّة في تركيا
نظرة إلى المشهد السياسي التركي الحالي يشير بوضوح إلى إمكانية التعايش بين الوسط الإسلامي مع الموروث اللائكي لمؤسس الدولة مصطفى كمال أتاتورك. بكيم أغاي يتقصى طبيعة هذه العلاقة، كما يعرض تعامل الكمالية مع الإسلام.