الهجرة في العالم - الهجرة إلى أوروبا

من التناقضات الصارخة أن يواجه البعض حركات الهجرة بمشاعر مشوبة بالقلق والذعر، متجاهلاً أن هذه الحركات كانت قد شاركت بفاعلية قوية لأن ترتقي أوروبا إلى مصاف أكثر أقاليم المعمورة رخاءً ورفاهية. تحليل فرانك ديفيل

لاجئ أفغاني في النرويج، الصورة: راطبيل شامل
هجرة بعض البشر اليوم صارت تناظر تداول المعلومات والمتاجرة بالعملات والبضائع.

​​

ترتبط أوروبا اقتصادياً وسياسياً بالعالم أجمع ارتباطاً وثيقاً. أضف إلى هذا أنها تجسد، من وجهة النظر الجغرافية، الطرف الغربي من القارة الأوربية-الآسيوية. وعموماً يمكن القول إن بني البشر قد دأبوا على الهجرة دائماً وأبداً. إن الإشارة إلى هذه الحقائق أمر مهم وذلك لأنها تمكننا من الإحاطة بالظروف الجوهرية المحيطة بأوروبا باعتبارها أحد مسارح تنقلات المهاجرين على مستوى العالم أجمع.

ويلتقي المرء الأوربيين في كل أصقاع المعمورة تقريباً إما كسائحين أو كرجال أعمال أو كمهاجرين أو أبناء مهاجرين. من ناحية أخرى أمست أوروبا محط قدم بشر جاءوا من كل صوب وحدب. لقد تلاحمت أوصال العالم فغدا بُعْدُ المسافات بين بلدان العالم أمراً نسبياً؛ بهذا المعنى صار العالم في حركة مستمرة سياسياً وجغرافياً وسكانياً وسلعياً.

وفي سياق هذا كله تبلورت أساليب ونماذج وقنوات جديدة للهجرة. فهجرة بعض بني البشر صارت تناظر تداول المعلومات والمتاجرة بالعملات والبضائع، إلا أن الأمر الذي تتعين الإشارة إليه هو أن هذه التحركات والتنقلات لا تتخذ مساراً أحادي الاتجاه، بل هي تتم في كلا الاتجاهين من حيث المبدأ.

والهجرة لا تشكل أحد مظاهر العولمة الناشرة أبعادها على العالم فحسب، إنما هي أيضاً حصيلة منطقية أفرزتها العولمة ذاتها. ومع هذا كله، فإن الملاحظ هو أن أقلية ضئيلة من بني البشر تسلك مسافات بعيدة في هجرتها، أي أن فئة ضئيلة العدد تهاجر من قارة إلى أخرى، أو تهاجر لأمد طويل أو على مدى الحياة.

فهجرة، شبيهة بالهجرة الأوربية الكبيرة التي نزح في سياقها ما يزيد على ستين مليون أوربي إلى أمريكا وأستراليا، ستظل حالة استثنائية في أغلب الظن. فالغالبية العظمى من بني البشر تنزح وتسيح في حدود دولها الوطنية، أي أنها تتنقل من مدينة إلى أخرى في الوطن الأم. أما بالنسبة لأولئك بالذين يهاجرون عبر الحدود الدولية فإنه يمكننا القول بأن هؤلاء غالباً ما يهاجرون إلى دول أو أقاليم مجاورة لوطنهم الأم.

من هنا لا عجب أن تتخذ عمليات الهجرة والاستيطان في أوروبا شكل تنقلات إقليمية الأبعاد، أي أن تتخذ شكل الهجرة من شرق أوروبا إلى غربها أو في إطار الإقليم الاسكندنافي أو بين البلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط. أضف إلى هذا أن أكثر الناس تتنقل لقضاء فترة زمنية قصيرة لا غير. ويستحوذ عدد المتنقلين للأغراض السياحية على حصة الأسد؛ ويحتل عدد المتنقلين من رجال الأعمال المرتبة الثانية. ويشكل التنقل للدراسة في بلد أجنبي أو العمل لدى إحدى العائلات الأجنبية من أجل تعلم اللغة أحد دوافع الإقامة في البد الأجنبي لفترة مؤقتة.

وهكذا، فسواء تعلق الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية أو بأوروبا، تشكل الإقامة المؤقتة أكثر الصيغ الدارجة هنا وهناك. أما بالنسبة لأغلب بني البشر الذين يتنقلون للعمل في بلد أجنبي، فالملاحظ الآن هو أن هؤلاء يذهبون إلى هناك لقضاء فترة وجيزة تبلغ عادة بضعة شهور وليس بضعة سنين؛ إنهم قد يأتون إلى البلد الأجنبي لمرات عديدة، لكنهم نادراً ما يقيمون لمدة طويلة من الزمن. بهذا المعنى لم تعد إشارة زيميل (Simmel) القائلة بأن "القوم يأتون اليوم ويستقرون لقضاء الغد أيضاً" تنطبق على واقع الحال؛ فالحقيقة الملاحظة في اليوم الراهن تحتم تعديل هذه الإشارة لتصبح "القوم يأتون اليوم ويرحلون في الغد".

ومهما كان الحال، يمكن أن تكون الهجرة استراتيجية للبقاء على قيد الحياة: فالهروب من الملاحقة والرغبة في الخلاص من فخ العوز والفاقة تشكل دوافع لا يصعب فهمها. كما تجسد الهجرة استراتيجية اقتصادية أيضاً: التفتيش عن المكان الذي يتيح للمرء الفرصة المناسبة لعرض قوة عمله والحصول على أكبر أجر ممكن.

أضف إلى هذا أن الهجرة يمكن أن تكون صيغة احتجاج يريد المهاجر من خلالها القول: "إني أحتج على الظروف السائدة في مسقط رأسي، إني لم أعد قادراً على الرضوخ لهذه الظروف، ولذا فإني أهاجر إلى عالم آخر." كما تشكل الهجرة النتيجة المنطقية لتوزيع الخيرات والرفاهية المتحققة على المستوى العالمي توزيعاً يفتقر إلى العدالة. من ناحية أخرى تشكل الهجرة سبيلاً للاطلاع على العالم والتعلم من البلدان الأجنبية، فمن خلال الهجرة يكتسب المرء تجارب قد تنفعه طيلة حياته.

وتنطوي الهجرة على هجرة المعارف والخبرات أيضاً؛ من هنا لا عجب أن يتزايد عدد العمال المهاجرين، فهؤلاء صاروا يتنقلون إلى كل بقعة تخطر على البال. وكثيراً ما تشكل القوانين الحكومية عقبة كأداء أمام رغبات القوم المهاجرين؛ وفي كثير من الحالات تدفع هذه العقبة بعضهم لأن يسلكوا مسالك لا تتفق والقوانين الحكومية المرعية.

إن الهجرة معبر قوي عن التحولات الاجتماعية؛ فالهجرة تشارك في خلق التحولات التي تطرأ على الدول والأقاليم المعنية؛ إلا أنه لا يجوز أن يغيب عن بالنا أن التغيرات والتحولات تطرأ على الهجرة ذاتها أيضاً. فالهجرة تؤدي إلى تطعيم سكان أوروبا بأناس جاءوا من أقاليم أخرى، وإلى حدوث تغير على التركيبة السكانية فيها باستمرار وبنحو بين للعيان.

وإذا كانت أوروبا قد اتصفت في يوم من الأيام بنزوح بعض مواطنيها إلى بلدان وأقاليم أخرى، إلا أن أوروبا أمست حالياً قارة تستقطب المهاجرين. فالبلدان التي جاء منها "العمال الضيوف" (Gastarbeiter) في سابق الزمن، أعني إسبانيا وإيطاليا والبرتغال، والنمسا أيضاً، صارت هي ذاتها هدفاً تهفوا إليه قلوب "العمال الضيوف" الجدد القادمين من جنوب شرق أوروبا وأفريقيا وآسيا على سبيل المثال لا الحصر.

من ناحية أخرى غدت دول من قبيل بولونيا والمجر وتركيا دولاً ينزح منها بعض مواطنيها وتستقطب بعض المهاجرين الأجانب في آن واحد. ففي بولونيا ثمة احتمال أن يكون عدد الأوكرانيين العاملين فيها قد صار يعادل، لا لربما يفوق، عدد البولونيين العاملين في ألمانيا.

بهذا المعنى تغير حركة الهجرة اتجاهاتها باستمرار، لا بل من الممكن أن يتحول مسارها رأساً على عقب كما هو بين من التاريخ الأوربي. ومن التناقضات الصارخة أن يواجه البعض حركات الهجرة بمشاعر مشوبة بالقلق والذعر، متجاهلاً أن هذه الحركات كانت قد شاركت بفاعلية قوية لأن ترتقي أوروبا إلى مصاف أكثر أقاليم المعمورة رخاءً ورفاهية.

الهجرة إلى أوروبا بالأرقام وبالحقائق الموثقة

بالنسبة لحركات الهجرة المتجهة إلى أوروبا ثمة وقائع أساسية تتعين الإشارة إليها. من هذه الوقائع المهمة: أن العدد الكلي للمهاجرين قد ارتفع بشكل ملحوظ، إلا أن صافي عدد المهاجرين، أي إذا ما طرح المرء من عدد الداخلين عدد الخارجين، قد ارتفع بنحو ضئيل في الواقع.

الزيادة الكبيرة حققتها هجرة الخبراء وأولئك العمال الذين يعملون موسمياً والأفراد المتدربين على كسب بعض المهارات والموظفين الذي تنقلهم شركاتهم العابرة للقارات للعمل في فروعها المقيمة في البلدان الأجنبية وكذلك الأفراد الذي يقطنون في هذا الجانب من المنطقة الحدودية لكنهم يعملون في الجانب الآخر من الحدود المتاخمة.

بهذا المعنى فإن الهجرة المؤقتة والهجرة لأسباب استثنائية قد كانت أكثر صيغ الهجرة نمواً وارتفاعاً؛ إلا أن هذه الحقيقة لا يجوز أن تحجب عن ناظرينا أن لَمَ شملِ العائلاتِ قد كان من أهم صيغ الهجرة من حيث العدد؛ وأن الهجرةَ لغرض العمل في بلد أجنبي قد احتلت المرتبة التالية على هذه الصيغة. من ناحية أخرى سجل عدد الطلبة المتنقلين في داخل أوروبا وعدد الطلبة القادمين من بلدان غير أوربية ارتفاعاً ملحوظاً؛ أما الهجرة لغرض اللجوء فإنها في تراجع ملموس.

إن من الصعب جداً حصر مستوى الهجرة بالأرقام؛ فهي ظاهرة عابرة شديدة التعقيدات تصعب دراستها دراسة دقيقة بأساليب البحث العلمي. وإذا كانت الأرقام المنشورة بشأنها توحي بشيء من الدقة، إلا أن الأمر الذي تتعين الإشارة إليه هو أن هذه الأرقام ليست بالدقة التي يتصورها المرء عادة. أضف إلى هذا أن الإحصائيات الخاصة بالهجرة لا تُفْصِحُ عن شيء ذي بال بالنسبة للحالة الخصوصية التي يتسم بها كل مهاجر، أعني أنها تتجاهل، بنحو ما، تطلعات بني البشر الفردية ومصائر كل واحد منهم.

فالأرقام تعبر حقاً عن الأبعاد التي اتخذتها ظاهرة اجتماعية معينة، إلا أنها، أعني الأرقام، لا يمكن أن تكون أكثر من أداة تقيس الظاهرة الاجتماعية المعنية بنحو تقريبي لا غير. من ناحية أخرى تترتب على الأرقام انفعالات نفسية عميقة الغور، فهي، أعني الأرقام، يمكن أن تهدأ الخواطر وتسكنها ويمكن أن تلقي الرعب في النفوس.

لهذه الأسباب مجتمعة يُستحسن أن يتحلى المرء بالحذر حينما يتعامل مع الإحصائيات الخاصة بالهجرة. ومهما كان الحال، فمنذ عام 1985، أي منذ اندلاع العولمة، أخذت الهجرة على مستوى العالم تنمو ببطء مقارنة بنمو عدد السكان. في عام 1985 كان حوالي 2,5 بالمائة من سكان المعمورة يقيمون في دولة أجنبية؛ في عام 2005 ارتفعت هذه النسبة فبلغت ما يقرب من 3 بالمائة، أو ما يعادل 175 مليون من سكان المعمورة.

وتشير الحقائق إلى أن عدد المقيمين في الدول الأجنبية كان أعلى مما تفصح عنه هذه الأرقام، وذلك لأن الهجرة المؤقتة على وجه الخصوص لا قدرة للأساليب الإحصائية، السائدة، على رصدها بنحو دقيق. ويبلغ عدد الأجانب المقيمين بشكل رسمي في دول الاتحاد الأوربي الموسع، أي الذي صار يضم العديد من دول أوروبا الشرقية، ما يقرب من 22 مليون نسمة (علماً بأن هذا الرقم لا يشتمل على أولئك الأجانب المولودين في دولة أجنبية لكنهم حصلوا على جنسية إحدى دول الاتحاد بعد نزوحهم إليها).

وليس ثمة شك في أن هذا الرقم لا يوضح الحقيقة بالكامل، فإلي جانب هؤلاء المقيمين بنحو شرعي، هناك ملايين عديدة من المهاجرين تقيم في دول الاتحاد بصورة "غير شرعية". ومن الأهمية بمكان الإشارة هاهنا إلى أن 6 ملايين، أي ما يقرب من ربع عدد الأجانب المقيمين في الاتحاد الأوربي بنحو شرعي، هم من مواطني إحدى دول الاتحاد الأوربي الأخرى.

هذا في حين تتراوح نسبة المهاجرين سنوياً من إحدى دول الاتحاد الأوربي أو من دول المنطقة الأوربية للتجارة الحرة إلى دولة أخرى من دول الاتحاد أو المنطقة الأوربية المذكورة آنفاً ما بين 50 بالمائة (بالنسبة لبلجيكا وسويسرا) و30 بالمائة (بالنسبة لإسبانيا) وما يقرب من 20 بالمائة (بالنسبة للنمسا وألمانيا وهولندا) وحوالي 10 بالمائة (بالنسبة للبرتغال وفنلندا)؛ ومنذ عام 1980 باتت كل من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا واليونان وسويسرا تسجل، نسبياً، أعلى معدلات للنمو.

وأمست كل من أيرلندا وفنلندا وجمهورية التشيك دولاً جديدة في مسرح الهجرة. وبنحو رئيسي يأتي المهاجرون إما من دول الجوار المباشر أو من المستعمرات سابقاً أو من الدول المتسمة بتوافرها على الأيدي العاملة الفائضة عن الحاجة أو من بعض الدول الأوربية ذات الرفاهية الاقتصادية المتدنية نسبياً.

ولعل علاقات الهجرة القائمة بين ألمانيا وبولندا، وبين بلجيكا وهولندا، وبين هولندا وبريطانيا، وبين إيطاليا وألبانيا، وبين إسبانيا والمغرب، وبين فنلندا وروسيا، وبين بريطانيا والهند وأخيراً وليس آخراً بين البرتغال وأنغولا خيرُ مثالٍ على علاقات الهجرة الثنائية القائمة بين هذا البلد وذاك. ومنذ أواخر ثمانينات القرن العشرين بات المهاجرون يأتون من دول ما كان المرء العادي في أوروبا قد رأى مواطنيها من قبلُ، أعني مهاجرين قادمين من مولدافيا وسري لانكا وأفغانستان والعراق وسيراليون والأكوادور والصين.

وما هذا إلا الحصيلة التي أفرزها الفرار من الجور وعمليات التشريد والتهجير، وسقوط الستار الحديدي في أوروبا الشرقية وأخيراً وليس آخراً التصدعات الاجتماعية التي عمت الكثير من بلدان العالم بفعل تطبيقها السياسات الليبرالية المحدثة. ومن حين لآخر يطلق البعض على حركة التنقل هذه مصطلح "الهجرة الجديدة".

والجدير بالذكر هو أن غالبية المتنقلين عبر الحدود الدولية يأتون من تركيا والمغرب والجزائر، ومن إيطاليا والبرتغال وألمانيا أيضاً. إلا أن بريطانيا وهولندا والدانمارك تعتبر من جملة البلدان التي يهاجر الكثير من سكانها. وفي حين يقطن 4,7 مليون إسباني في العالم الأجنبي، يقيم في إسبانيا نفسها أجانب يتراوح عددهم ما بين مليون ومليونين.

وإذا كان ما يزيد على ثلاثة مليون تركي يقيمون في بلدان أجنبية، تأوي تركيا ذاتها مهاجرين يزيد عددهم على المليون. يتبين لنا من هذه الوقائع أن الدول المهمة، من حيث عدد المهاجرين إليها، قد أمست، في كثير من الحالات، دولاً مهمة من حيث عدد المهاجرين منها أيضاً؛ والعكس بالعكس صحيح أيضاً طبعاً.

لقد نشأت أسواق للعمل عالمية الأبعاد وذات بنية تحتية خاصة بها؛ فهذه الأسواق لا تتوافر، فقط، على مكاتب للسمسرة بقوى العمل، بل تستخدم أيضاً شبكة الإنترنت بغية التوسط بين الطلب والعرض الخاصين، على سبيل المثال لا الحصر، بخبراء تكنولوجيا المعلومات وبالممرضات المؤهلات للعناية بالمرضى والمقعدين والعجزة وبقوى العمل القادرة على الخدمة في الأعمال المنزلية.

وأوروبا جزء من سوق العمل هذه، فمن خلالها تحصل أوروبا على ممرضات قادمات من جنوب أفريقيا وعاملات في المنازل جئن من الفلبين وعلى مبرمجي برامج الكمبيوتر الهنود. والملاحظ هو أن الهجرة المؤقتة لأغراض العمل، أعني، على سبيل المثال، هجرة الأيدي العاملة الراغبة في العمل على مدار موسم معين، قد صارت، منذ نهاية تسعينات القرن العشرين، في تزايد مستمر في العديد من الدول الأوربية (وفي ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وسويسرا وإسبانيا على وجه الخصوص).

ففي عام 2001 بلغ عدد هؤلاء العاملين ما يقرب من 700 ألف. وأمسى بعض الباحثين والمؤلفين يتحدث، في هذا السياق، عن "العمال الضيوف الجدد" في إشارة منهم إلى العمال الذين جاءوا إلى أوروبا في سبعينات القرن العشرين. وبرغم انضمام بعض بلدان أوروبا الشرقية إلى حظيرة الاتحاد الأوربي، لم تندلع حركة تنقل كبيرة حتى هذا الحين. فعلى سبيل المثال لم يزد عدد الأوربيين الشرقيين الداخلين إلى بريطانيا، هذه الدولة التي تعتبر هي وايرلندا الدولتين الوحيدتين في الاتحاد الأوربي اللتين لا وجود فيهما لآي عقبات تحد من حرية انتقال (مواطني دول أوروبا الشرقية إليهما، المترجم)، على حوالي 120 ألف مواطن فقط.

وحدث هذا بالرغم من أن بريطانيا كانت سترحب بهم بناءاً على حاجتها الماسة لقوى العمل. ويبلغ عدد الطلبة الأجانب الذين يدرسون في أوروبا حوالي 834 ألف (بما في ذلك أولئك الطلبة من الأصول الأجنبية الذين استوطنوا في ألمانيا)؛ علماً بأن ما يقرب من نصف الطلبة الذين يدرسون في أوروبا هم من مواطني إحدى الدول الأعضاء في منظمة التنمية والتعاون الدولي.

ويعيش ويعمل في أوروبا ما بين 4,5 مليون و 7,5 مليون مهاجر بصورة غير شرعية. إلا أن كثيراً من هؤلاء يعملون في المواسم أو يتنقلون ذهاباً وإياباً عبر الحدود الدولية. وعمليات الطرد والإبعاد، التي هي صيغة من صيغ الهجرة الإجبارية عملياً، ليست سوى الوجه الآخر للهجرة غير الشرعية.

ويُقدر عدد الأفراد الذين يتم طردهم من دول الاتحاد الأوربي سنوياً بحوالي 400 ألف؛ وكانت ألمانيا بمفردها قد طردت منذ عام 1990 ما يزيد على 800 ألف فرد. بناءاً على هذا كله فمن المحتمل جداً أن يتفوق، بنحو جوهري، عدد أولئك الذين تضطرهم عمليات الطرد والإبعاد الإجبارية على الرحيل بصورة "اختيارية" على عدد المبعدين.

ومهما كان الحال، فبالنسبة لأوروبا أيضاً يمكن القول: الهجرة لا تعني الهجرة من دولة إلى أخرى فقط، ولا الهجرة من إقليم إلى إقليم آخر فحسب، بل هي تعني أيضاً، وفي كثير من الحالات، مد الجسور بين هذه الدول والأقاليم أيضاً؛ كأن تمد جسراً بين منطقة الرور في ألمانيا وزونغولداق (Zonguldak) في تركيا، بين براتو (Prato) في الهند وزيهجيانغ (Zhejiang) في الصين، بين بريدفورد في بريطانيا وميربور في الهند. فروتردام وبرشلونه، وبراغ واستنبول، إن هذه المدن أمست حظائر متنامية ومراكز تأوي ثقافات العالم المختلفة؛ وليس ثمة شك في أن المرء لن يفلح في تفسير النمو الاقتصادي العظيم الذي تمر به لندن حالياً، فيما لو تجاهل أن 45 بالمائة من سكانها هم من المهاجرين.

وبالنسبة لألمانيا فإن من المتوقع أن يصل عدد الأفراد المتنقلين محلياُ أو عبر الحدود الدولية في العشر سنوات القادمة إلى ما يقرب من 40 مليون فرد، أو ما يعادل 50 بالمائة من حجم السكان؛ أما بالنسبة لبريطانيا فإن التوقعات تشير إلى أن هذه النسبة ستبلغ 10 بالمائة. من ناحية أخرى هناك دولة مشاركة في الاتحاد الأوربي لا يزيد عدد القاطنين فيها على 1,6 بالمائة من مجمل سكان الاتحاد.

ومهما كان الحال، الحقيقة البينة هي أن المواطنين الأوربيين كثيري التنقل والسياحة في أصقاع المعمورة، وتبقى هذه الحقيقة قائمة حتى وإن أكدنا على أن هؤلاء المواطنين لا يحبذون عادة الانتقال من مدينة أو دولة إلى مدينة أو دولة أخرى في داخل الاتحاد الأوربي.

إلا أن تشبث مواطني الاتحاد الأوربي بمواصلة السكنى بمكان إقامتهم في داخل الاتحاد الأوربي، يتم تعويضه من خلال الهجرة الدولية في الواقع. من ناحية أخرى جرت العادة على الاعتقاد بأن المهاجرين هم من الشباب الذكور أصلاً.

إلا أن الحالة تغيرت في الآونة الأخيرة تغيراً ملحوظاً، فقد صار المرء يتحدث عن "الهجرة النسائية". ويعود الارتفاع الحاصل في عدد النساء المهاجرات إلى نمو الطلب على المهن التي تؤديها النساء عادة، أعني العمل لدى العائلات أو في مجال التمريض والعناية بالمقعدين والعجزة.

وكيفما اتفق فإن الوقائع التاريخية تشهد على أن الهجرة النسوية ليست ظاهرةً جديدةً. إن هجرة الأيدي العاملة عقب الحرب العالمية الثانية هي التي ولدت الاعتقاد بأن الهجرة النسائية ظاهرة جديدة؛ فهذه الأيدي العاملة كانت من جنس الذكور في أغلب الحالات. إلا أن الأمر الذي تتعين ملاحظته هو أن هذه الهجرة الرجالية كانت حالة استثنائية وليس قاعدة عامة تسري على كل الحقب والأزمنة.

كما لا يجوز الاعتقاد بأن الشباب فقط هم الذين يهاجرون. فعدد أولئك الذين تهفوا قلوبهم للإقامة في العالم الأجنبي بعد بلوغهم سن التقاعد والإحالة على المعاش في تزايد مستمر. فعدد الأوربيين الشماليين القاطنين في إسبانيا صار يقدر بمئات الآلاف. كما غدت تركيا ومالطا وقبرص هدفاً يصبو إليه المحالون على المعاش والمهاجرون الراغبون بالتمتع بأشعة الشمس.

ومع أن الدراسات الخاصة بالآثار الاقتصادية الناجمة عن الهجرة لا تزال ضئيلة العدد، إلا أن هذه الدراسات استطاعت، مع هذا، التأكيد على أن الهجرة تولد النمو وتعزز الصناعة والتجارة والمهن الحرفية. فعدد فرص العمل التي تخلقها الهجرة يفوق النمو الحاصل في عدد الأيدي العاملة.

الهجرة وردود الفعل السياسية عليها

لقد غير التكامل الأوربي خصائص الهجرة بنحو شديد، فبعض من الهجرة الدولية، أي الهجرة من دولة إلى دولة أخرى، صار تنقلاً داخلياً في إطار نظام سياسي موحد، أعني الاتحاد الأوربي. فتلك الملايين من الناس، التي جاءت، من بولونيا وليتوانيا على سبيل المثال، وكانت حتى الفاتح من أيار/مايو من عام 2004 أجانب مقيمين إقامة غير شرعية، ستصبح، بدءاً من عام 2011 على أدنى تقدير، من جملة مواطني الاتحاد الأوربي.

ويزيح تحول العلاقة البينية السائدة بين الدول الستار عن ماهية التوترات الممكن نشوبها حينما لا تتطابق مناطق الهجرة مع المناطق السياسية. إن توسع الاتحاد الأوربي من جراء انضمام بعض بلدان أوروبا الشرقية إليه قد أنهى بعضاً من سوء التنسيق وعدم التناسب. إلا أن هذه الحقيقة لا يجوز أن تحجب عنا حقيقة مفادها أن مناطق الهجرة إلى أوروبا أبعد مدى، فهي تمتد من روسيا والقوقاز وتصل، مروراً بالشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط، إلى المغرب.

ولا ريب في أن هذا التباين والتنوع الشديد سيواصل فرز نتائج عرقية وخيمة الأبعاد، نتائج من قبيل التمييز في معاملة أولئك المنتمين إلى النظام السياسي (أي الاتحاد الأوربي، المترجم) مقارنة بأولئك الذين لا ينتمون إلى النظام السياسي المعني. وليس ثمة شك في أن التمييز بين المهاجرين المرغوب بهم والمهاجرين غير المرغوب بهم انطلاقاً من معايير عرقية واقتصادية لا يقل ريبة عن التمييز بين الأفراد المهاجرين انطلاقاً من مدى انتمائهم أو عدم انتمائهم إلى النظام السياسي.

أضف إلى هذا أن التكامل العالمي على وجه الخصوص قد أمسى ينطوي على تناقض بين. فتحرير انتقال المال والبضائع والمعلومات من القيود يتزامن مع وجود قيود صارمة على حرية تنقل الأفراد بين الدول. فاقتداءً بالتدابير المتخذة من قبل "نادي الأغنياء"، أعني مجموعة الدول المنضوية تحت راية منظمة التنمية والتعاون الدولي، أخذ يتبلور نظام رقابة متطور ومتعدد الجوانب حول أوروبا يراد منه حمايتها من دخول المهاجرين غير المرغوب بهم إليها؛ إنه نظام رقابة مخصص لأوروبا ومفصل بناءاً على حاجتها في المقام الأول.

فهذا النظام القائم على اتفاقيات تجارية وسياسات تنموية واتفاقيات لإعادة المهاجرين غير المرغوب بهم إلى أوطانهم الأم، يتسع ليمد ذراعيه إلى هونج كونج والقوقاز والشرق الأوسط وغرب أفريقيا.

ولعل المخيمات التي مولها الاتحاد الأوربي أو يخطط لإنشائها من أوكرانيا وحتى ليبيا بغية حصر المهاجرين فيها وشل حركة تنقلهم خيرُ مثالٍ على صرامة وفاعلية نظام الرقابة هذا. إلا أن هذه التدابير لم تؤد إلى تراجع عمليات الهجرة، بل هي أدت، منذ ثمانينات القرن العشرين، إلى تزايد إسباغ اللاشرعية على عمليات الهجرة.

وهكذا دفع آلاف من بني البشر حياتهم ثمناً تقاضته منهم القيود والمعوقات المتخذة حديثاً للحيلولة دون وصولهم إلى أوروبا. وتحت مسميات من قبيل "إدارة الهجرة وتنظيمها" صار المرء يناقش حالياً التناقضات الصارخة القائمة بين المتطلبات الاقتصادية والظروف السياسية والتطلعات الإنسانية. فالبعض يريد من سياسة "إدارة الهجرة وتنظيمها" أن تكون أداة مبطنة لفرض المزيد من القيود ولتطبيق أساليب انتقائية أفضل؛ وهناك آخرون يريدون من سياسة إدارة الهجرة أن تكون محاولة لحل التناقضات السائدة بين العناصر الثلاثة المذكورة آنفاً ووسيلة لانتهاج سياسة هجرة مستديمة تراعي تطلعات كل الأطراف.

ومهما كان الحال، فالملاحظ هو أن كل الدول الأوربية تقريباً - وألمانيا هي الحالة الاستثنائية هاهنا - قد أضفت الشرعية على المقيمين فيها بصورة غير شرعية واتخذت التدابير لدخول المهاجرين إليها عبر قنوات شرعية.

من ناحية أخرى نجم عن القيود على الهجرة والبطالة السائدتين في شمال (أوروبا، المترجم)، والنمو الاقتصادي والرقابة الحكومية الهينة في جنوب أوروبا، تحول، ملحوظ إلى حد ما، في الاتجاهات التي تسلكها الهجرة وفي عدم تركزها على دول قليلة العدد؛ فالمهاجرون صاروا يتوزعون على بلدان أكثر عدداً.

ولن نبالغ كثيراً إذا قلنا أن ثمة منافسة شديدة بين الدول لاستقطاب "أرقى العقول والتخصصات"، أعني أن بعض هذه الدول صار يتطلع إلى استقطاب خبراء تكنولوجيا المعلومات، والمتدربات على العناية بالعجزة والمقعدين والمتخصصين بالمهن الطبية وما سوى ذلك من خبراء تحتاجهم هذه الدول.

ويرسل المسرح السياسي إشارات مختلفة، لا بل ومتناقضة في أكثر الأحيان. فانطلاقاً من إمكانيات النمو المتاحة تتطلع بعض الدول، كبريطانيا وإسبانيا في المقام الأول، إلى هجرة متزايدة.

أما في فرنسا فإن التبرير المستخدم ينطلق، من حين لآخر، من ارتفاع نسبة الشيوخ في الهرم السكاني ومن تراجع عدد السكان، مؤكداً على أن مواجهة هذا كله يتطلب المزيد من الهجرة. لكن هناك دولاً أخرى، من قبيل الدانمارك وهولندا، تحاول بكل جهدها الحيلولة دون الهجرة.

أما ألمانيا فإنها تستخدم، منذ كثير من السنين، خطاباً معادياً للهجرة، وإن كانت تسجل، في ذات الوقت، أعلى معدلات للهجرة. وكيفما اتفق، فإن دولاً ضئيلة العدد فقط استطاعت حتى الآن أن تجد الحل الناجع للتناقضات القائمة بين السماح بالهجرة لأسباب اقتصادية وديموغرافية، أي سكانية، والحيلولة دون الهجرة لأسباب تتأتى من التعريف النظري لماهية الدولة وتنبع من المشاعر القومية أو العرقية.

وتتطلع ألمانيا إلى هجرة ذات خصائص عرقية معينة: إلى المهاجرين من ذوي الأصول العرقية الألمانية النازحين إليها من أوروبا الشرقية (Aussiedler). أما إسبانيا فإنها تنظر بعين العطف على المهاجرين القادمين إليها من مستعمراتها السابقة (أمريكا الجنوبية)؛ وتسوغ بريطانيا الهجرة من خلال المنطق الاقتصادي.

وتكاد أن تجمع كافة الدول الأوربية على انتهاج حزمة مختلطة تضم احتواء هجرة اللاجئين ومكافحة الهجرة غير الشرعية وتوسيع رقعة الهجرة الشرعية، خاصة حينما ترتبط هذه الهجرة بإقامة مؤقتة لأغراض العمل وكسب القوت؛ وتضع كثير من الدول العقبات دون منح الإقامة الدائمة ودون التحاق أفراد الأسرة بمعيلها المقيم في البلد المعني. فالمرء بات يرى في استيطان ما يسمى "بالعمال الضيوف" في سبعينات القرن العشرين حدثاً سلبياً لا يجوز تكراره.

ومن وجهة النظر القانونية ثمة ثلاث مجموعات من المهاجرين ينبغي التمييز بينها: طليعة المثقفين والخبراء الذين يكادون ألا يواجهوا أية عقبات تذكر أو إجحاف اجتماعي ملموس، وجمهور العمال الذين يؤدون أعمالاً موسمية في أغلب الحالات (علماً بأن حقوقهم محدودة بنحو شديد وشروط عملهم سيئة بنحو واضح وملموس وأنهم غالباً ما يعانون من وطأة البطالة ومن سوء ظروفهم السكنية والمعيشية)، وأخيراً وليس آخراً هناك مجموعة المهاجرين الذين تحتاجهم سوق العمل، لكنهم، مع هذا، يُعاملون، سياسياً، كمجموعة إقامتها "غير شرعية" وبالتالي فإنهم لا يتمتعون بأية حقوق.

من هنا لا عجب أن يغض المرء الطرف حتى عن الحقوق المعترف لهم بها؛ فألمانيا وبريطانيا على سبيل المثال يطبقان بنحو محدود فقط أحكام "وثيقة الأمم المتحدة لحقوق الأطفال" على أطفال المهاجرين. أضف إلى هذا أنه ليست هناك دولة واحدة من دول أوروبا الغربية قد وقعت لحد الآن على "وثيقة الأمم المتحدة لحماية حقوق المهاجرين وعائلاتهم". بهذا، فمع أن الهجرة قد غدت واقعاً اجتماعياً بيناً للعيان، إلا أنه يكاد ألا يوجد أي تعامل سياسي منصف مع المهاجرين.

بقلم فرانك ديفيل
ترجمة: عدنان عباس علي
حقوق الطبع فكر وفن 2006

الدكتور فرانك ديفيل باحث جامعي متخصص في علم الاجتماع وبشؤون الهجرة والمهاجرين على وجه الخصوص. وهو يمارس التدريس في جامعة بريمن حالياً.

قنطرة

تدفق الفقراء إلى أوربا
يدعو روبرت نويدك، مؤسس منظمة كاب أنامور الإغاثية الألمانية، الأوربيين إلى التعامل مع مسألة المهاجرين غير الشرعيين إلى أوربا بمسؤولية أكبر ويحثهم على التعاون مع بعض الدول الإفريقية.

www

فكر وفن