فرصة تاريخية لإحلال السلام؟

يبدو أن الحكومة السودانية راضية فعلياً عن انفصال الجنوب، وعلى أوروبا ألاّ تتردد في مساعدة كلتا الدولتين السودانيتين، لأن هذه المساعدة ستكون وسيلة لإظهار سياسة سلام أوروبية واثقة الخطى في القارة الإفريقية. المحلل السياسي الألماني فولكر بيرتيس في استعراض للسيناريوهات المحتملة بعد انفصال الجنوب ولفرص السلام التي يمكن أن يأتي بها هذا الانفصال.

الصورة د.ب.ا
"لن ينشأ، لا في الشمال ولا في الجنوب، نظاما حكم ديمقراطيان وليبراليان، لكن السودان الممزق من جراء الحرب الأهلية يمكن أن ينعم الآن بالهدوء"

​​

في استفتاء تقرير المصير الذي بدأ أمس الأحد 9 كانون الثاني/ يناير 2011 سيختار جنوب السودان الاستقلال، ولا يكاد يوجد أي شخص آخر يتوقع غير ذلك. وحتى حكومة الخرطوم نفسها تعتقد أن مواطني جنوب السودان سيختارون الانفصال وإقامة دولة جديدة. وفي كل يوم يكرر الرئيس السوداني عمر البشير وحكومته أنه سيحترم نتيجة الاستفتاء، ويؤكد أن السودان سيكون أول دولة تبعث سفيراً إلى جوبا، عاصمة دولة جنوب السودان المستقبلية. وطالما كرر البشير القول أنه على استعداد لمساعدة الجنوب في المجال الاقتصادي والقضايا الأمنية.

إذاً يمكن أن يسير كل شيء على خير ما يرام. لكن توجد هناك سيناريوهات أخرى يمكن أن تبدأ في بعض نقاط الضعف: فلم يتم بعد توضيح جميع المسائل الحساسة التي ما زالت مفتوحة حتى اليوم. كما لا يتوقع أحد أن يحدث ذلك خلال الفترة الانتقالية بعد الاستفتاء والتي لا تزيد على ستة أشهر. بينما يأوي الجنوب جزءا من متمردي دارفور، يأوي الشمال بعض قادة المعارضة من الجنوب. وهنا يمكن أن يتسبب كل طرف منهما في عدم استقرار الطرف الآخر، حين تنشب صراعات أو نزاعات سياسية بينهما

دولة بلا مقومات؟

الصورة د.ب.ا
"استقلال الجنوب يقدم للدول الأوروبية الفرصة أيضاً في إقامة علاقاتها مع الخرطوم على قاعدة جديدة"

​​

كما أن هناك شبكة كثيفة من العلاقات الاجتماعية بين الشمال والجنوب، والتي لا يمكن إلا أن تعود بالمنفعة على الطرفين. وهذا الأمر يسري على سبيل المثال على الهجرة الموسمية لمئات الآلاف من البدو الرحل، الذين يسوقون قطعانهم إلى الجنوب في موسم الأمطار. إضافة إلى ذلك يتساءل الكثير من المراقبين بقلق عن مصير المواطنين المنحدرين من جنوب السودان الذين يعيشون في الشمال في الوقت الراهن والذين تقدرهم الإحصائيات بين مليون ومليونين شخص. ويتساءل هؤلاء المراقبون ما إذا كانوا سيُعتبرون أجانباً على حين غرة بعد انفصال الجنوب، فهناك حاجة إلى هؤلاء الأشخاص في شمال السودان، كما أعمالهم ومعيشتهم وإمكانيات تعلمهم موجودة في شمال السودان.

على النقيض من ذلك ينعدم في الجنوب وجود أي شيء: البنية التحتية والمساكن والوظائف، لهذا السبب لا يعد الانتقال إلى الجنوب بديلاً لأغلب هؤلاء الأشخاص. لكن على الرغم من ذلك توجد أيضاً أصوات متشددة في الشمال، تتحدث بصراحة عن ضرورة مغادرة هؤلاء الأشخاص للسودان، إذا ما انفصل الجنوب. وعلى الرغم من أن الحكومة أعلنت أنه لا يجب على أي شخص أن يخشى شيئاً، إلا أن بعض سياسيي المعارضة يحذرون من أن النظام الذي سيكون في مواجهة ضغوطاً على صعيد السياسة الداخلية يمكن أن يتسامح مع دعوات التحريض المتشددة ومن العنف ضد مواطني جنوب السودان.

وعلى أي حال من الأحوال ستتعرض حكومة البشير إلى مثل تلك الضغوط، لأن الوضع الاقتصادي سيصبح أكثر صعوبة بعد فقدان حقول النفط في الجنوب. كما يتهم جزء من النخبة السياسية الرئيس عمر البشير أن فرط بوحدة البلاد بتوقيع اتفاق السلام عام 2005 وتطبيقه. ألم يكن بقدر البشير عرقلة استفتاء حول "تقرير المصير"، كما فعلت الحكومات التي سبقته؟
وستكون بالفعل انعطافة تاريخية جديرة بالملاحظة، عندما يمكن الرئيس السوداني عمر البشير، المعزول دولياً والمطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بأمر للإلقاء القبض عليه، انفصالاً سلمياً للجنوب متحدياً كل الأصوات المعارضة لذلك. وإذا ما تحقق ذلك سيكون على المجتمع الدولي مكافئته على هذه الخطوة، انطلاقاً من مبدأ مصلحته في استقرار هذه المنطقة.

"نريد شيئاً واحداً فقط: أن لا تندلع حروب جديدة"

الصورة أ.ب
"سيحتاج كل من الدولتين السودانيتين-في الشمال والجنوب- إلى الدعم الدولي، فالجنوب يحتاج في المقام الأول إلى المساعدة في بناء المؤسسات الرسمية وجهاز الشرطة والقضاء والإدارة"

​​

ولن ينشأ، لا في الشمال ولا في الجنوب، نظاما حكم ديمقراطيان وليبراليان، لكن السودان الممزق من جراء الحرب الأهلية يمكن أن ينعم الآن بالهدوء. وفي إحدى المقابلات قال أحد وزراء البشير ومستشاريه المقربين: "نريد شيئاً واحداً فقط: أن لا تندلع حروب جديدة". وقال الوزير إن بلاده ستتحمل مرارة فقدان الثروات النفطية، لأن أغلب العائدات النفطية كانت تُنفق على الحرب، في البدء ضد الجنوب ومن ثم في دارفور. وأضاف المتحدث أنه في الوقت الراهن بات الأمر متعلقاً بإقامة علاقات بناءة مع الجار الجديد في الجنوب وبالاستثمار في تطور السودان وبإقناع الشركاء الأوروبيين أيضاً بأنه من المجدي التعاون مع السودان. وحتى الوقت الراهن لم يعرف هذه الفرصة سوى الشركات الصينية والبرازيلية فقط، بحسب المتحدث.

وبالفعل سيحتاج كل من الدولتين السودانيتين-في الشمال والجنوب- إلى الدعم الدولي، فالجنوب يحتاج في المقام الأول إلى المساعدة في بناء المؤسسات الرسمية وجهاز الشرطة والقضاء والإدارة. كما سيكون من الواجب وجود بعثة جديدة لقوات أممية على الحدود بين الشمال والجنوب من أجل الحيلولة دون اندلاع نزاعات في المنطقة الحدودية. وهذه المهمة ستكون مهمة يمكن أن تشارك فيها ألمانيا بجنودها أيضاً باعتبارها عضواً في مجلس الأمن الدولي. إن شمال السودان وجنوبه بحاجة إلى المساعدة في إيجاد تسوية فعالة لمسألة الحدود بينهما.

فرصة تتطلب دعما دوليا

الصورة د.ب.ا
فولكر بيرتيس: مدير مؤسسة العلوم والسياسة في العاصمة الألمانية برلين

​​ أما الشمال فيجب أن يتم حثه وتشجيعه على الاستمرار في عملية السلام في دارفور. وعلى النقيض من الجنوب لا يتعلق الأمر هنا بالانفصال. إن الحرب في دارفور لم تكن إلا نتيجة لتهميش اقتصادي وسياسي استمر عقوداً من الزمن، ونتيجة لصراعات بين مربي الماشية والمزارعين. وزاد من حدة هذه الصراعات جفاف الأرضي المتزايد والتي استغلتها الحكومة في تحريك ميليشيات قبلية ضد المتردين. إن أهم مجموعة متمردة اليوم تبدي اهتماماً في المشاركة في الحكومة السودانية قبل أي شيء آخر.

لكن مفتاح السلام لا يكمن فقط في تفاهم سياسي مع المتمردين والذي يحاول الاتحاد الأفريقي وقطر بشكل خاص إيجاده، بل وفي المصالحة الاجتماعية التي تبدو أهم مجاميع المتمردين مستعدة لها. إن هدنة في دارفور سوف لا تصمد إلا إذا وجدت هناك بدائل عن الحرب هناك، مثل: إعادة إنعاش المجال الزراعي والاستثمارات في البنية التحتية وتمكين البدء بتنمية اقتصادية ذاتية الدعم. وبدون المساعدة الدولية سوف لا يتمكن السودان من القيام بهذا كله.

إن استقلال الجنوب يقدم للدول الأوروبية الفرصة أيضاً في إقامة علاقاتها مع الخرطوم على قاعدة جديدة، فعلى كل حال ألمحت الولايات المتحدة الأمريكية إلى إمكانية رفع عقوباتها الاقتصادية المفروضة على السودان، إذا ما ترك الأخير الجنوب ينفصل بسلام. وحتى الآن حالت هذه العقوبات الشركات الأوروبية هي الأخرى من المشاركة في هذا البلد العملاق الذي يعتبر ثالث أكبر بلد من حيث المساحة في القارة الإفريقية-حتى مع انفصال الجنوب. ومن الضروري ألا تنتظر الآن أوروبا موافقة واشنطن: فمساهمة اقتصادية وسياسية فعالة في كلا الدولتين السودانيتين ستكون شكلاً من أشكال التعبير عن سياسة سلام أوروبية واثقة الخطى في القارة الإفريقية.

فولكر بيرتيس
ترجمة: عماد مبارك غانم
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011

فولكر بيرتيس: مدير مؤسسة العلوم والسياسة في العاصمة الألمانية برلين، وعاد مؤخراً من زيارة استمرت لعدة أيام إلى العاصمة السودانية الخرطوم.

قنطرة

خيارات السودان أمام مذكرة توقيف البشير:
العرب خارج نظام العدالة الدوليّة
يري الخبير الإعلامي والمحلل السياسي اللبناني لدى "مجموعة الأزمات الدوليّة" نديم حاصباني أنّ النخب العربية تضع أنفسها خارج نظام العدالة الدوليّة من خلال دفاعها عن الرئيس السوداني البشير، وتتصرّف وكأن العدالة تستهدفها بدلا من أن تُساعدها على إحقاق العدل لما فيه خير ومصلحة شعوبها.

مشكلة دارفور:
السودان بين الحرب والسياسة
الصراعات المحلية المتشابكة والمتداخلة مع بعضها البعض تدل على الخلفية التاريخية والسياسية في المنطقة التي تعتبر على درجة كبيرة جدا من التعقيد يتساءل فريد هاليداي من معهد الدراسات الاقتصادية في لندن حول مستقبل الحكومة الإسلامية في السودان بعد توقيع اتفاق السلام بين الأطراف المتنازعة. هل سيتوقف القتال في دارفور في ظل الضغط العالمي القائم من قبل محكمة الجنايات الدولية؟ هل من الواقعي التفكير بحل سياسي بعيدا عن تغير ثوري؟

اتفاقية السلام في السودان - حبر على ورق ؟
دارفور، إلى أين؟
لاجئون من دارفور في التشاد، الصورة: د ب أ لم تفرز المفاوضات المتعلقة بمنطقة دارفور والتي أشرف عليها الاتحاد الأفريقي أية نتائج إلا بعد قرابة عامين من البدء فيها. هذا وإن لم يوافق على الاتفاقية المبرمة حتى الآن إلا عدد قليل من الثوار. فالكثيرون منهم تساورهم الشكوك حيال جدية نية حكومة الخرطوم في إحلال السلام. مقال كتبه مارك إنغيلهارت.