العلمانية والإسلام السياسي وتجديد الخطاب الديني...مفاهيم تحت المجهر

يحاول الباحث حسام الدين درويش في كتابه "في المفاهيم المعيارية الكثيفة: العلمانية، الإسلام (السياسي)، تجديد الخطاب الديني" المساهمة في إيجاد صيغة توافقية تتجاوز الجدال الذي يضع العلماني مقابلَ الديني في العالم العربي الإسلاماتي المعاصر. أماني الصيفي في مراجعة لأهم محاور الكتاب.

Essay by أماني الصيفي

تُعَدُّ مسألة شكل حضور "الدين"، في المجال العمومي، وطبيعة هذا الحضور، وعلاقته بقيم الديموقراطية، من أكثر المسائل إشكالية في النقاشات الدائرة حول الحداثة وطبيعة المجتمعات الحديثة عمومًا، والمجتمعات غير الغربية خصوصًا.

وفي هذا السياق، يحاول حسام الدين درويش في كتابه " في المفاهيم المعيارية الكثيفة: العلمانية، الإسلام (السياسي)، تجديد الخطاب الديني"، الذي صدر مُؤخَّرًا عن دار الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت؛ يحاول المساهمة في إيجاد وساطة للخروج من الجدال الذي يضع العلماني مقابلَ الديني في العالم العربي الإسلاماتي المعاصر.

ويركز الكتاب اهتمامه على النقاش الدائر حول إشكالية العلاقة بين الديني والعلماني، من خلال عرضٍ مُكثَّفٍ للمفاهيم المستخدمة في النقاش الدائر حول تلك العلاقة من قبل الأكاديميين المختصين على اختلاف توجهاتهم الفكرية والعقائدية، منذ شيوع الجدال حول حضور الدين في المجال العمومي، أو إقصائه منه، في المجتمعات العربية الإسلاماتية، في بداية من القرن العشرين وحتى وقتنا الحالي.

وفي هذا العمل البحثي يسعى درويش إلى ضبط النقاشات الأيديولوجية المتعلقة بحضور الدين المجال العمومي، أو إقصائه منه ، من خلال المعرفة النقدية المطلوبة أساسًا لتحقيق الغاية الجوهرية من حضور مفهوم "العلمانية"، بعيدًا عمَّا يصفه بأنه قد يكون اتفاقًا أو اختلافًا زائفين بين المتناقشين، بسبب سوء الفهم، أو عدم الفهم، للمفاهيم المستخدمة للتعبير عن العلاقة بين الدين/ الإسلام وقيم الديمقراطية.

ففي الفصل الأول المُعنون بـ"المفاهيم المعيارية الكثيفة وتجاوز مثنوية الواقعة والتقييم"، ينطلق الباحث من بحثٍ نظريٍّ فلسفيٍّ لما يسمى بـ"المفاهيم المعيارية الكثيفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية"، ويُحلِّل، من خلاله، العلاقة بين المفاهيم المعيارية الكثيفة والمفاهيم المعيارية الخفيفة.

ووفقًا للباحث فـ"المفاهيم المعيارية الكثيفة" هي مفاهيم تتضمن "وصفًا غير معياريٍّ وتقييمًا معياريًّا في الوقت نفسه"، في مقابل المفاهيم الوصفية التي تتضمن وصفًا خالصًا (تقريبًا)، والمفاهيم المعيارية الخفيفة التي تتضمن تقييمًا معياريًّا خالصًا (تقريبًا)". ويتسم المفهوم المعياري الكثيف بالعمومية والتجريد، حيث يجتمع "الوصف والتقييم" و"لا يتنافران".

ويضيف درويش كذلك أنه يمكن القول من وجهة نظر أخرى أن المفهوم المعياري الكثيف موجِّهٌ للفعل، بمعياريته، في حين أنه، بوصفيته، مُوجَّهٌ بالعالم الذي نحيا به (الثقافة التي تُشكِّل العُرْف، والمعايير المجتمعية) كما بيَّن برنارد وليامز، الذي قام بصياغة مفهوم "المفهوم المعياري الكثيف".

 

"علمانية، علمنة، تعلمن، علمانوية، إسلامويةمفاهيم معياريةٌ كثيفةٌ بامتياز"

كتاب " في المفاهيم المعيارية الكثيفة: العلمانية، الإسلام (السياسي)، تجديد الخطاب الديني"، الذي صدر مُؤخَّرًا عن دار الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت.
كتاب "في المفاهيم المعيارية الكثيفة: العلمانية، الإسلام (السياسي)، تجديد الخطاب الديني"، الذي صدر مُؤخَّرًا عن دار الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت للباحث حسام الدين درويش "يؤمن بأن هناك دينامياتٍ داخليةً ومحليةً جعلت من ثورات العالم العربي لحظات “معرفية” هامة؛ حيث انتقل الجدل من صالونات فكرية ضيقة إلى جدل مجتمعي حول قضايا في غاية الأهمية، مثل: العلمانية، الإسلاموية، الإسلام السياسي، تجديد الخطاب الديني… إلخ، وفق تقديم دار النشر.

ويرى الباحث أن المفاهيم التي تتعلق بالعلاقة بين الديني والعلماني في السياق الإسلامي، مثل: "علمانية، علمنة، تعلمن، علمانوية، إسلاموية، هداية"، هي مفاهيم معياريةٌ كثيفةٌ بامتيازٍ؛ أي أنها مفاهيم تتضمن وصفًا تحليليًّا وقيمًا معيارية لهذا المفهوم المستخدم، سواء كانت تلك القيمة سلبية أو إيجابية.

وحسب الباحث، فالقيم المعيارية هنا تنطوي على مبدأ جوهري، وهو استدعاء التغيير من حال كائن غير مرغوب فيه (سلبي) إلى حال مرغوب به (إيجابي) يجب أن يكون عليه المجتمع العربي الإسلاماتي المعاصر. ولهذا فهدف الباحث هنا ليس التعريف بماهية المفاهيم المعيارية في حدِّ ذاتها، والعلاقة بين المفاهيم المعيارية المختلفة، فحسب، وإنما استخدام تلك المفاهيم والمعايير التي تتضمنها، والتمييز بينها، كوسيلة لفكِّ الارتباط بين قيمٍ سلبية أو إيجابية مُهيمِنة ارتبطت بمفهوم العلمانية، والعلاقة بين العلمانية والإسلام في المجتمعات العربية الحديثة والمعاصرة.

وفي هذا السياق، يشير درويش إلى غياب التمييز بين المفاهيم التالية: "العلمانية" و"العلمانوية" و"التعلمن" في الجدال الدائر حول العلاقة بين الدين الإسلامي والدولة والسياسة، واعتبارها جميعًا تشير لمعنى واحد.

وهذا المعنى يعتبر بالضرورة مفهومًا معياريًّا كثيفًا، أي: أنه مفهوم تُتجاوز فيه القيمة الوصفية الخالصة لتحمل في طياتها قيمة معيارية "إيجابية أو سلبية" أثَّرت ولا زالت تؤثر في عدم الفهم أو سوء الفهم لهذه المفاهيم من قِبل كلٍّ من العلمانيين والإسلاميين. ونتج عن ذلك إعاقة تحقيق أهداف أساسية وجوهرية لها علاقة بهذا المفهوم "العلمانية". ويأتي على رأس تلك الأهداف تحقيق قيم الديمقراطية في المجتمع العربي الإسلاماتي المعاصر.

 

1. الدين الإسلامي ومشروع علمانيات متعددة: بين الاستثناء والخصوصية!

 

يخلص المدخل النظري المتعلق بالتعريف بالمفاهيم المعيارية الخفيفة والمفاهيم المعيارية الكثيفة إلى عدم إمكانية الفصل التام بينهما، وإلى تحدي التقابل المانوي بين العلماني والديني في السياق السياسي، خصوصًا، وإلى إبراز حضور التداخل الديني والعلماني في السياق العربي الإسلاماتي حتى قبل الحداثة "العلمانية". "فالعلماني" قد يحمل ضمنيًّا "الديني"، وكذلك "الديني" قد يحمل في طياته "العلماني".

ولكن  درويش يؤكد أن هذا التداخل لا يمكن اعتباره استثناءً للمجتمعات والثقافات العربية دون غيرها، لكن يمكن اعتباره "خصوصية الدين الإسلامي". وهذا ما يناقشه الفصل الثاني المعنون بـ"دراسة العلاقة بين العلمانية والإسلام في مركز الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية والانسانية: علمانيات متعددة: ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات في جامعة ليبزج الألمانية".

وهذا المشروع البحثي الذي بدأ العمل به على خلفية مشروع بحثي أكاديمي تحت قيادة الباحثة في علم الاجتماع الثقافي مونيكا فولراب سار بعنوان "علمانيات متعددة" بين عامي 2011 و2012 يُمثِّل نقدًا لنظرية كونية "الحداثة الأوربية العلمانية". ويرى هذا النقد أنَّ الحداثة الغربية "الأوربية" قد قامت بإقصاء تاريخ المجتمعات غير الغربية وثقافاتها، بما ينكر على تلك المجتمعات نموذجًا من الحداثة يتوافق مع تاريخ تلك المجتمعات وسياقاته الثقافية والاجتماعية.

وينطلق المشروع البحثي إذن مخالفًا نظرتين إقصائيتين تتمثل الرؤية الأولى في نظرة ثقافوية و/ أو استشراقية جوهرانية للعلاقة بين الإسلام والعلمانية السياسية تفصل بين الإسلام والحداثة الكونية العلمانية بالضرورة، وترى أن الإسلام في جوهره لا يتضمن تمايزً او تمييزًا بين الديني والعلماني، أو السلطة الدينية والدنيوية، وهو ما يعتقد أنه السبب الرئيس وراء تخلُّف المجتمعات الإسلامية، كما يجادل دان دانر في كتابه "الضياع في المقدس" أو برنارد لويس في كتابه "ما الخطأ؟". فالنظرة الثقافوية/ الاستشراقية ترى أن العالم الإسلامي، بثقافته الإسلامية، يُشَكِّل "وحدة ثقافية متميزة وقائمة أو مكتفية بذاتها، وأنها منفصلة عن الغرب، ولها منطقها الخاص" (124). فالمجتمعات الإسلامية، بثقافتها، إذن مختلفة بالضرورة عن الغرب وعن قيمه التي تسمح بالفصل والتمايز بين العلماني والديني في السياسة، كما يشير الباحث مثلًا إلى أنتوني بلاك في كتابه "الفكر السياسي الإسلامي: من الرسول إلى الحاضر"، وجيرهارد باورينج في مقدمة "موسوعة برينستون للفكر السياسي الإسلامي".

 

 

غياب التمييز بين  "العلمانية" و"العلمانوية" و"التعلمن" في الجدال الدائر حول العلاقة بين الدين الإسلامي والدولة والسياسة

 

أما الرؤية الثانية -حسب الباحث- فترى أن الدين الإسلامي ليس مجرد دين، ما يعني أنه معتقد مُقدَّس خاص بالأفراد، وبذلك يمكن ازاحته للمجال الخصوصي أو الفصل بين الدين كمعتقد وبقية مجالات الحياة، ولكنه رؤية للعالم تتجسد في أسلوب أو طريقة حياة تُشكِّل معها كل مجالات الحياة المختلفة. وبذلك، لا يمكن الفصل بين ما هو ديني وما هو غير ديني، كما تتطلب النظرية التقليدية للحداثة العلمانية. ولذلك، ومن وجهة نظر مقارنة، يختلف مفهوم الدين في الإسلام عنه في الغرب، كما يفترض ويلفريد سميث في كتابه المعنون بـ "معنى الدين ونهايته".

ومن وجهة نظر مختلفة لهاتين الرؤيتين، يوضح  درويش أن "مشروع علمانيات متعددة" يبين، في المقابل، وفي السياق نفسه، على حضور التمايز/ التمييز بين الديني والعلماني، عبر التاريخ والجغرافيا، خارج الحداثة الاوربية وقبلها أيضًا، مؤكدًا أن ماهية الدين لا تتغير فحسب، بل يمكن لها أيضًا أن تتقلَّص وتصغر أو تتضخَّم وتكبر، بحيث إن بعضها يبدو بحق أو من دونه، أنه لم يَعُدْ مجرد دين، وإنما "طريقة حياة" (127).

ولهذا يُشدِّد مشروع "علمانيات متعددة" على دراسة "المفاهيم والظواهر" المتعلقة بالعلاقة بين الديني والعلماني في سياقات زمكانية مختلفة، آخذًا في الحسبان دور علاقات القوة التي تلعب دورًا في تشكيل تلك المفاهيم، من دون اعتبار تلك العلاقات المُحدِّد أو المؤثر الوحيد في فهم تلك المفاهيم والظواهر.

ومن خلال اعتماد المشروع مقاربة اجتماعية تاريخية ومقارنة في الوقت نفسه، تستمد أدواتها المنهجية من علم التاريخ وعلم الاجتماع؛ يخلص إلى القول -حسب الباحث- بأن مشروع "علمانيات متعددة" يعترف "بخصوصية الإسلام، ولكنه لا يرى فيه حالة استثنائية، فهناك الكثير من بلدان العالم من بينها مجتمعات غربية كان حضور "الديني" ولا زال يظهر فيها جليًّا إلى حدٍّ سمح باعتبار النموذج العلماني الأوربي الذي يرى بفي "خصخصة الدين و/أو انحسار تأثير الديني على المواطنين في المجتمع الحديث" استثناء.

ومن وجهة النظر هذه، يرى الباحث أن مشروع "علمانيات متعددة" يتراوح بين "الإقرار بعدم التماثل أو التطابق، ورفض القول بوجود اختلاف جذري وانعدام زمكاني للمقارنة، بين الحالة الإسلامية والحالات الأخرى" (128).

 

2. هل يكون الإسلام علمانيًّا؟

 

حتى وإن سلَّمنا أن حضور الدين في المجال العمومي الحديث في المجتمعات العربية الإسلاماتية لا يعتبر استثناءً، يظل السؤال: إلى أيِّ درجة لا يُعَدُّ حضور الدين في المجال العمومي الحديث "العلماني" مشكلةً و/ أو إشكاليةً؟ يُعَدُّ هذا التساؤل من أهم الأسئلة التي يحاول المشروع الإجابة عنها في نقاشه للأطروحة التقليدية للحداثة التي تتطلب "خصخصة الدين"، أي إزاحة الدين إلى المجال الخاص للمواطنين في "المجتمع الحديث العلماني".

ويشير الباحث إلى أطروحة الباحثة في العلوم الإسلامية والاجتماعية غوردون كريمر التي ترى أن حضور الدين في حدِّ ذاته في المجال العمومي لا يُشكِّل تهديدًا للمجال العمومي الحديث "العلماني"، ولكن "الخطر" قد يكمن أساسًا فيما قد يستلزمه هذا الحضور. فالدين الإسلامي -حسب كرمر- يعتبر "دينًا عموميًّا"، أي أن الإيمان به يتطلب الالتزام بممارسات لا يمكن حصرها في المجال الخصوصي للمواطن الحديث، ويظهر الخطر / التهديد للمجال العمومي الحديث هنا، حين يتطلب ذلك الحضور للدين تقييدًا لحرية التعبير في المجال العمومي؛ كحريات الطوائف الدينية الأخرى، أو حتى غير المؤمنين. وتشير كرمر إلى أمور ثلاثة قد يَحُدُّ الحضور الإسلامي في المجال العام من وجودها وهي "حرية التبشير بالديانات الأخرى، حرية الرِّدة، أو التحوُّل من دين إلى آخر" (135).

 

 

ومن جهة أخرى، يحاجج درويش أنه على افتراض صحة الأطروحة السائدة التي ترى أن الدين الإسلامي "دين ودولة"، فمن الممكن الزعم بأن الإسلام يحمل في طياته ضمنيًّا ما هو ديني وما هو غير ديني، وهي الفرضية التي يحاول من خلالها مشروع "علمانيات متعددة" إيجاد التمايُز بين ما هو ديني وما هو علماني في الدين الإسلامي، أولًا: من خلال لفت الانتباه إلى التميز بين الديني والإسلامي في علاقته مع السياسي، أولًا: من خلال التشديد على أن السلطة السياسية لم تَدَعْ قيادة بلاد بأغلبية مسلمة تحت وكالة دينية بعد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، والذي جمع بين القيادة الدينية والسياسية قبل دخول الحداثة الاستعمارية أو المجتمعات المعاصرة (يُستثنَى من ذلك المغرب وربما الأردن كذلك)، بالإضافة إلى ذلك يُشدِّد مشروع "علمانيات متعددة" على التمييز بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية محاجًّا أن "الإسلامي قد يكون غير ديني، والديني قد يكون غير إسلامي".

وفي هذا السياق، ومن ناحية أخرى، يمكن التمييز نسبيًّا بين ما هو ديني "ينتمي للشريعة" وما هو إسلامي، وقد لا يكون بالضرورة دينيًّا، أي المجالات الحياتية التي لا يتدخل الدين، بوصفه "أحكام شريعة"، في التعامل معها بالضرورة.و يشير الباحث هنا إلى ما أطلقت عليه كرمر "المنطقة المحايدة". والمساحة أو المنطقة المحايدة هي "ما يُسمَّي العفو أو الفراغ التشريعي" أو "المسائل المتروكة" أو "المصالح المرسلة"، أي منطقة المباح التي تتموضع بين منطقتي الحلال والحرام". فهذه المنطقة، حسب كرمر، تتمتع "بالاستقلال النسبي" (138).

ومن الجدير بالإشارة إليه، هنا، كذلك، ما استحضره الباحث للإشارة للتمايز بين الديني والعلماني عبر التمييز مثلًا بين الدنيوي والديني، من خلال التمييز بين "الأدب، والشريعة، والأحاديث النبوية". يشير درويش إلى الباحث أرماندو سلفادوري الذي يتتبع حضور هذا التمييز بين مجالات الأدب في المجتمع الإسلامي قبل الحداثة، والتي تضمنت الاشارة والتمييز بين ما هو ديني وما هو دنيوي، كما نرى مثلًا في عناوين الكتب التالية: "أدب الدنيا والدين"، "أدب الذات"، "أدب الأكل"، "أدب السلطان". يُسمِّي سلفادوري هذا التمايز "تمييزًا ناعمًا" ويصفه بأنه "مَدَنِيَّة علمانية".

 

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة

الإسلام ومسألة الحكم وذلك الجدل الذي لا ينتهي حول كتاب علي عبدالرازق

الإسلام ضحية الإسلاموية والأنظمة السلطوية...تغيّرت الأشكال وبقي الاستغلال"

التباهي بالفصل بين الدين والدولة ليس دقيقا كما نتصور"

 

في الفصل الثالث المعنون بـ"في العلمانية والعلمانوية في العالم العربي الإسلاماتي: "نفير سوريا" لبطرس البستاني، يتابع درويش أهمية التمييز بين مفاهيم "العلمانية، والعلمانوية، والتعلمن" في العالم العربي الإسلاماتي، من خلال استرجاع تاريخ حضور هذه المفاهيم في الثقافة واللغة العربية، من خلال رصد موجز مُكثَّف للتغييرات التي رافقت حضور مفهوم العلمانية / العلمانوية خصوصًا في رؤية العلاقة بين الدين والدولة في العالم العربي الحديث والمعاصر. تعتبر "العلمانية"، حسب درويش، مفهومًا تحليليًّا يُحيل على عملية التمايز، في المستوى المؤسساتي والمعرفي أو النظري، بين ما هو ديني وما هو غير ديني.

والعلمانية إذن مفهوم يصف "ما هو كائن في الواقع". أما مفهوم "العلمانوية" فيحيل على ما "يجب أن يكون، ويتضمن موقفًا مؤيدًا لعلمنة الواقع أو تعلمنه، ومبرزًا لإيجابيات هذه العلمنة أو هذا التعلمن" (147- 148). ومن هنا فمفهوم "العلمانوية" بوصفه مفهومًا معياريًّا يغلب عليه الجانب الأيديولوجي. ومع ذلك، يؤكد درويش أن هذا التمييز بين "العلمانية" و"العلمانوية" لا يعني بالضرورة خلو مفهوم "العلمانية" من البعد المعياري، ومن هنا يُشدِّد على إشكالية الفصل بين مفهوم "العلمانية" أو "العلمانوية" على أساس حضور البعد المعياري "القيمي" إلى جانب البعد الوصفي، في كل المفهومين. فهناك عوامل عدة، ذاتية وموضوعية، يمكن أن تلعب دورًا في تغيير درجة "كثافة المفهوم"، ومن ثَمَّ معياريته.

وتبقى مسألة عدم إمكانية الفصل القاطع والكامل بين ما يمكن اعتباره "مفهومًا معياريًّا كثيفًا" وما يمكن تصنيفه مفهومًا معياريًّا خفيفًا أو مفهومًا وصفيًّا، كمفهوم تحليلي، لا يحمل بالضرورة تقييمًا إيجابيًّا أو سلبيًّا، تبقى إشكاليةً غير قابلةٍ للحل النظري العام، بل ينبغي التعامل مع كل حالةٍ من حالاتها على حدةٍ. والحالة التي يركز هذا الكتاب عليها تخصُّ الفصل بين مفهومي "العلمانية" و"العلمانوية"، من خلال علاقتهما بقيم الديمقراطية والتعددية، ومن خلال النظر إلى النتائج أو الآثار التي ينتج عنها استخدام هذا المفهوم أو ذاك حسب المتغيرات المستقبلية. فالعلاقة بين الدال "المفهوم" والمدلول "ما يشير إليه"، بتعبير رولان بارت هنا، يجب أن تحكمها الغاية المرجوة، والتي قد تختلف حسب السياق الزمكاني.

وهذه النقطة سابقة الذكر هي التي يدعمها الباحث، لاحقًا، من خلال التَّطرُّق للعديد من الدراسات النقدية التي تناولت العلاقة بين الدين والسياسة والدولة في العالم العربي الإسلاماتي. فالباحث يشير إلى أنه على الرغم من أن كلمة "علماني" قد ظهرت في اللغة العربية منذ القرنين التاسع والعاشر الميلادين، لتشير إلى التمييز، في السياق المسيحي العربي، بين رجال الدين من الكهنة والآخرين ممن يتخذون من العالم مجالًا لعملهم الديني التبشيري، لم يبرز مفهوم "العلمانوية" بوصفه أيديولوجيا إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

ويبين الباحث أن نص "نفير سوريا" (1860ـ1861)، لبطرس البستاني، هو النص الذي يعتبره الباحث نصٌّ رائدٌ بلورة مفهوم العلمانية، بوصفها التمييز بين الديني وغير الديني (العلماني)، ومفهوم العلمانوية، بوصفه دعوة أيديولوجية إلى وجوب تحقيق التمييز من خلال الفصل بين الدين والسياسة، خصوصًا. وقد اتسم نص البستاني بتلك السمة الريادية على الرغم من أن كلمة "العلمانية" نفسها ليست حاضرةً في نصه، غائبة في حين استخدمت كلمات مثل: "التمدُّن والمدنية". ويتابع مؤكدًا أنه رغم أننا قد نرى مفهوم "العلمانوية" حاضرًا في مقالات لاحقة لبطرس البستاني، والتي شدد فيها على إيجابية عملية الفصل بين السلطتين السياسية والدينية، فإن مفهوم "العلمانوية" لم يتخذ موقفًا سلبيًّا من الدين، أي أن العلمانوية لم تكن ضد الدين. على العكس من ذلك تمامًا، فعلمانوية البستاني ترى في وجود قيم الدين الحميدة شرطًا إيجابيًّا لتأسيس مجتمع متمدن مستقر.

وفي هذا المجتمع تتحقق العلمانية المبنية بالضرورة على الانتماء الوطني، لدعم مجتمع يسوده السلام بعيدًا عن الفتنة والصراع الطائفي. وهنا يبدو أن توضيح المبعد المعياري المحايث لمفهومي "العلمانوية والعلمانية" ضروريًّا، لأن القيمة المعيارية التي ارتبطت بمفهوم العلمانوية لم تعنِ بالضرورة رؤية سلبية للدين. ولن يظهر التصور السلبي للعلمانوية في الثقافة العربية الإسلاماتية، كما يري الباحث، إلا لاحقًا، مع جمال الدين الأفغاني، في كتابه "الرد على الدهريين". "فالعلمانية" كما يصورها الأفغاني هي "جرثومة الفساد وأرومة الإداد، وخراب البلاد وما بها من عباد" (ص179، 180).

يجادل الباحث أن هاتين الصياغتين تمثلان موقفين متضادين من العلمانية، وتُعدَّان الأكثر شيوعًا في المجتمعات العربية الإسلامية. ينبغي عدم اختزال العلمانية في أي من هذين الموقفين، فكل موقف منهما يمثل مجرد إمكانية من ممكنات الموقف العلمانوي، وهو موقف لا يعني أنه مبني بالضرورة على فهم واقعي وحقيقي لمفهوم "العلمانية "، والغايات التي يفترض أن تحققها أساسًا. ويمكن أن تكون هناك عوامل عدَّة تؤثر في الموقف تجاه تقبُّل مفهوم "العلمانية"، وهو ما يناقشه الباحث في الفصل الرابع.

في الفصل الرابع الموسوم بـ"في (عدم) التوافق بين الإسلام والتنوير / العلمانية: (سوء) الفهم المتعلق بالمفاهيم المعيارية الكثيفة"، يناقش درويش موقف محمد عابد الجابري من العلمانية الذي يصفه درويش أنه موقف "غامض" وملتبس من مفهوم العلمانية. إذ إن الجابري يرى أن "العلمانية" "مسألة زائفة" وأن لا حاجة للمجتمعات العربية الإسلامية إليها؛ إذ إنها -وفقًا للجابري- فصل للدين عن الدولة، كان من الضروري حدوثه في المجتمعات الأوربية المسيحية أو بعض المجتمعات التي تعاني من الفتنة الطائفية. في المقابل، يشدد الجابري على ضرورة الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية. وهذا الفصل هو احد ممكنات معنى العلمانية تعريفاتها الأساسية. أما نصوص عزيز العظمة وصادق جلال العظم فقد قدمت معرفة وتمايزات مهمة حول العلاقة بين الدين الإسلامي والسياسة، لكن البُعْدَ المعياري ظلَّ حاضرًا بقوةٍ فيها. فقد غلب على أسلوب العظمة الجانب المعياري "الأيديولوجي" في تحديده لمفهوم "العلمانية" الذي من المفترض أنه مفهوم وصفي. وكذلك هو الحال مع نصوص العظم التي ربطت بين العلمانية والتنوير في مقابل ربط الدين بالتخلُّف. وفي مثل هذه النصوص، يظهر التقابل المانوي يضع العلماني (بوصفه إيجابيًّا وخيرًا) مقابل الديني (بوصفه سلبيًّا وشرًّا) في خطابات العلمانويين. ونجد هذا التقابل المانوي معكوسًا في خطابات الإسلامويين، حيث يمثل الديني ما هو خيرٌ، ويمثل العلماني ما هو شرٌّ. وفي مثل هكذا تقابلات مانويةٍ، يتم تجاهل أن كلًّا من الديني والعلماني قد يكونان شرًّا، ويدعمان الديكتاتوريات، وقمع الأفراد في المجتمع، أو يكونان خيرًا ويسعيان إلى الديمقراطية والحريات (الفردية).

 

 

3. إشكالية الدولة المدنية والديمقراطية:

 

في البحث عن مجتمع عربي إسلاماتي معاصر تسوده قيم الديمقراطية، بعيدًا عن الثنائيات الإقصائية، يناقش الفصل الخامس المعنون ﺑ "في مفهوم الإسلام السياسي ومستقبله في العالم العربي الإسلاماتي بعد الربيع العربي: الإسلامي السياسي والآخر" العلاقة بين الإسلام السياسي من جهة، والجماعات الإسلامية الأخرى، والطوائف من الديانات الأخرى، والمواطنين غير المؤمنين، وسلطة "الدولة"، من جهة أخرى. ويتابع درويش بحثه الذي يحاول، من ناحيةٍ، إبراز التمايزات بين المفاهيم المختلفة، ومن ناحيةٍ أخرى، تحدي التقابل الثنائي بين أطراف متصارعة. ويقوم درويش بذلك من خلال التشديد على أن مفهوم "الإسلام السياسي" والذي يُعرَف بأنه الإسلام الذي يربط بين الإسلام والسلطة السياسية عمومًا لا يقابله بالضرورة إسلام غير سياسي. "فالإسلام الممثل بالدولة كإسلام رسمي هو إسلام سياسي، والإسلام الدعوي الذي يحاول ألا يشتبك مع السياسة قد يحتوي ضمنيًّا جانبًا سياسيًّا ممثلًا في ضغط واستبداد نظام سياسي "علماني" يُجبِره على التخلَّي عن لعب دور في المجال السياسي.

 

"هل الإسلام السياسي قدر أو خطر؟"

 

وهنا يتساءل درويش "هل الإسلام السياسي قدر أو خطر؟" فيجيب: إن الإجابة في الحالتين "بالنفي"، إذا استثنينا الإسلام الجهادي الذي يلغي السياسي بلجوئه إلى العنف لتحقيق غاياته السياسية. ويرى درويش أن موقف الناخبين المتغير من الأحزاب الدينية السياسية يبيِّن أن الموقف الشعبي العام لا يبدو بالضرورة دينيًّا، ولكنه موقفٌ سياسيٌّ يمكن ارجاعه إلى ماهية الدور الذي تقوم به تلك الأحزاب في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بغض النظر عن توجُّهها الديني.

ويشير الباحث هنا مثلًا إلى النتائج الانتخابية المتفاوتة لحزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات البرلمانية خلال السنوات الماضية. ويتحدى درويش الرؤية التي تجد "تناقضًا ماهويًّا" بين الإسلام السياسي والديموقراطية، فيكتب: "أتاح الربيع العربي أساسًا عمليًّا ونظريًّا جديدًا لنفي وجود أي استثنائية عربية، فضلًا عن "استثنائية إسلامية"، في خصوص العلاقة مع الديمقراطية. فليس هناك ماهية أو خاصية ثابتة محايثة للعرب أو لثقافتهم تقف عائقًا أمام تحقق الديمقراطية في الدول العربية الإسلاماتية. فقد كان الإسلاميون وغيرهم جزءًا من الحِراك الشعبي المطالب بالديمقراطية، وجزءًا من القوى المشاركة في العملية الديمقراطية التي أفضي إليها هذا الحِراك في تونس، ومصر، وليبيا، والمغرب، على سبيل المثال. فالاستثنائية الفعلية أو المزعومة، هي استثنائية تاريخية، وليست استثنائية ماهوية" (217).

ويرى  درويش أن الإشكالية تبرز خصوصًا في نجاح الإسلام السياسي في إقناع الأطراف المتخوفة من استبداد سلطة دينية تحل محل "الاستبداد العلماني"، وفي مدى قبول "الإسلام السياسي" بقيم المواطنة، والتعددية، وتداول السلطة السياسية. ويبدو أنه من الممكن، مبدئيًّا، تحقق ذلك، من خلال التخلِّي عن الرؤية الثقافوية التي تري في الإسلام السياسي ممثلًا وحيدًا أو ضروريًّا ﻟ "الإسلام الصحيح".

ويبرز درويش مفارقة مهمةً في خطاب الإسلام السياسي الذي يزعم، من جهةٍ، أنه يمثِّل، سياسيًّا ودينيًّا، كل المسلمين؛ ويصر، من جهةٍ أخرى، أن واجبه يتضمن "هداية" المسلمين في المجتمع لما يراه الإسلام الصحيح. وبهذا تكون رؤية الإسلام السياسي أيديولوجية لا تختلف في المنطق عن الرؤية العلمانوية. ﻓ "المقاربة العلمانوية تريد تنوير المجتمع المتخلف، في حين أن المقاربة الإسلاموية تريد هداية "المجتمع المنحرف". ومن دون الثقة في المجتمع، وفي أن لديه ما يكفي من الهداية و/ التنوير، لا معنى (معرفيًّا، على الأقل) للحديث عن الديمقراطية"(225).

ومع ذلك يؤكد  درويش أن الدولة، كسلطة سياسية، وبوصفها تمتلك القوة المؤثرة في المجتمع، هي مَنْ يقع عليها العبء الأساسي في دعم وقبول الأطراف السياسية في المجتمع من خلال مؤسساتها المختلفة عمومًا، ومؤسساتها التعليمية والإعلامية والقانونية خصوصًا. وهنا يميز درويش بين مفهومي السلطة والقوة، في المجتمع، فمثلًا: على الرغم من أن الإسلام السياسي قد استطاع الوصول إلى السلطة بعد الربيع العربي فهذا -حسب درويش- لا يعني أنه امتلك القوة المطلوبة لصنع القرار. فقد كانت هناك أطراف عديدة حدَّت من سلطته.

الكاتب والباحث حسام الدين درويش، ​باحث سوري حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بوردو في فرنسا
حسام الدين درويش هو باحث أول بجامعة لايبزيغ الألمانية؛ وكتابه "في المفاهيم المعيارية الكثيفة: العلمانية، الإسلام (السياسي)، تجديد الخطاب الديني" يمثل خلاصة عمل بحثي حول المفاهيم والفهم وسوء الفهم، وكذلك العلاقة بين الدين الإسلامي والحداثة الغربية وفلسفاتها، والذي بدأ مع بحثه في الدكتوراه حول "الهيرمينوطيقا" وانتهى بعمله في مشروع "علمانيات متعددة"، مرورًا بأبحاثه حول العلاقة بين المعرفة والأيدولوجيا.

وهنا يشير الباحث إلى التمييز الهام بين "السلطة الإسمية" و"السلطة الفعلية". فالانتخابات "الديموقراطية" لا تفضي بالضرورة إلى امتلاك الحزب الفائز للقوة السياسية التي تمكنه من صنع القرار. فالسلطة في البلدان العربية هي سلطة هرمية تتركز فيها السلطة في أعلى الهرم، سواء كانت قمة الهرم ممثلة في الملك في البلدان الملكية، أو في السلطة العسكرية والجيش في البلدان الأخرى كالجزائر ومصر. فهذه السلطات التي تحتل قمة الهرم تمثل ما يسمى ﺑ "الدولة العميقة"، في مقابل مفهوم "المجتمع العميق" الذي يمثله الإسلام السياسي الذي يمثل المجتمع الذي يغلب على ثقافته الطابع الديني، خصوصًا في ظل إهمال الدولة "العلمانية" لحاجات المواطنين واستبدادها.

وفي الفصل الأخير المعنون ﺑ "في تجديد الخطاب الديني: تحليل للمفاهيم وللضوابط الداخلية والخارجية" يميِّز الباحث التمييز بين مفهومي "خطاب الدين" و"الخطاب الديني"، كما يميِّز بيم مفهومي "تجديد خطاب الدين" و"التجديد في خطاب الدين"، ومفهومي "الدين" و"التدين". ويوضِّح، في هذا الفصل، الدور الأساسي الذي تلعبه الدولة و"السلطة السياسية" في التحكُّم في حضور "النص الديني" في الحياة اليومية المعاصرة ومتطلباتها من جهة، والفاعلية البشرية في تأويل النص المقدس من جهة أخرى، ويشير، من جهة ثالثة، إلى الدور الذي تلعبه قوى خارجية للضغط على "السلطة السياسية" في صياغة تأويلات محافظة أو ليبرالية. وفي كل الحالات يبدو أن الباحث يشدد على دور الانسان في تأويل وحضور المقدس في المجتمع الحديث. فلا مقدس بدون مَنْ يُقدِّسه، وهنا يؤكد على أهمية الانتباه للغة التي تستخدمها السلطة السياسية، وقد تستغلها في خطابها حول "تجديد الخطاب الديني"، فالتجديد قد يكون "عودة للقديم في خطاب جديد، وليس بالضرورة تجديدًا دينيًّا يدعم حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية والمواطنة".

وإجمالا يتضح أن الهاجس الأساسي الذي يشغل بال الباحث هو تحقيق الديمقراطية، إذ يدفع القارئ للإجابة على التساؤل الهام: "هل العلمانية سمة من سمات الديموقراطية أم أن الديموقراطية تُعَدُّ أحد عناصر النموذج العلماني؟ وما هي أهمية هذه الإشكالية؟"

ويرى الباحث أن قيم الديمقراطية "الحريات الفردية، التعددية، القوانين التي تدعم المساواة بين المواطنين" تُعَدُّ هي الأساس المعياري الذي يجب أن يتم على أساسه تقييم العلاقة بين الدولة والسياسة والدين، سواء كان ذلك لتقييم حضور الدين في المجال العمومي أو غيابه. ويقترح من هنا الحاجة للخروج من التقسيم الثنائي ديني / علماني من خلال تبنِّي مصطلح "الدولة المدنية". والدولة المدينة كحل بين الدولة العلمانية والدولة الدينية أو الإسلامية، ورغم أنه مفهوم عائم وغامض وفارغ، إلا أن درويش يجادل أن هذا الفراغ بالخصوص هو ما يسمح بإمكانية ملئه، بناء ووفقاً للسياق الحاضر ومتطلباته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وفي الختام؛ أرى أن الكتاب يُعَدُّ إضافة مهمة جدًّا في النقاش الدائر حول معني حضور الدين في المجال العمومي وتحقيق قيم الديمقراطية والتعددية الثقافية، خصوصًا  بعد  انتفاضات الربيع  العربي. فهذه التمييزات والحفر التاريخي يكرسان التعددية الثقافية ويرفضان إقصاء الشعوب غير الغربية وثقافتها وتاريخها من جهة. ومن جهة أخرى، فهذه التمييزات والتمايزات التي يُشدِّد عليها البحث من شأنها أن تُعمِّق المعرفة حول تلك المفاهيم الجدلية والشائكة في فهم العلاقة بين الدين والدولة والسياسة. وبذلك يتضمن الكتاب سعيًا غنيًّا وقيمًا للخروج من دائرة الانقسام والشقاق الزائف (علماني مقابل ديني)، والذي غالبًا ما ينتهي في غير صالح قيم الديمقراطية والمواطنة والتعددية في المجتمعات العربية الإسلاماتية.

 

وجدير بالذكر أن حسام الدين درويش هو باحث أول بجامعة لايبزيغ الألمانية؛ وكتابه هذا هو خلاصة عمل بحثي حول المفاهيم والفهم وسوء الفهم، وكذلك العلاقة بين الدين الإسلامي والحداثة الغربية وفلسفاتها، والذي بدأ مع بحثه في الدكتوراه حول "الهيرمينوطيقا" وانتهى بعمله في مشروع "علمانيات متعددة"، مرورًا بأبحاثه حول العلاقة بين المعرفة والأيدولوجيا، حيث يمكن الإشارة إلى كتابين آخرين صدرا له مُؤخَّرًا، أولهما موسومٌ ﺑ "المعرفة والأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر"، وثانيهما موسومٌ ﺑ "الاعتراف والهوية: نقد المقاربة الثقافوية والعنصرية في الثقافة العربية الإسلامية.

 

الكاتبة: أماني  الصيفي

حقوق النشر: قنطرة 2022

أماني  الصيفي . أكاديمية وباحثة في  تخصص الدراسات الأدبية  والثقافية.

حقوق النشر محفوظة لموقع قنطرة: لا يجوز دون الحصول على إذن خطي من الناشر إعادة نشر  أي مادة من مقالات موقع قنطرة للحوار مع العالم الإسلامي.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة"

"الدولة الإسلامية" كانت نتاج الضرورات التاريخية وليس النصوص العقدية

ملف خاص من موقع قنطرة حول التاريخ الاسلامي

محمد أركون: الوعي التاريخي مفقود في ثقافتنا العربية المعاصرة

الطائفية نقيض الديمقراطية...حرب البربريات في العالم العربي

حدود القراءات العلمية للقرآن...الباحثة الألمانية أنجيليكا نويفيرت مثالا

ملف خاص من موقع قنطرة حول التاريخ الاسلامي

الطائفية نقيض الديمقراطية...حرب البربريات في العالم العربي

الدولة في الإسلام...الخلافة ليست جزءاً من عقائد التوحيد