رحيل عميد الصحافة العربية محمد حسنين هيكل

رحيل محمد حسنين هيكل، يشكل خسارة كبيرة لعالم الصحافة والسياسة في بلده مصر والعالم العربي. تميز هيكل بحضور إعلامي وسياسي نادر على الساحة الدولية، لكن تداخل أبعاد كثيرة في شخصيته وعلاقاته المتشعبة جعلته مثار جدل كبير.

By منصف السليمي

عن 93 عاماً رحل الكاتب الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل، ومع رحيله توقف ظهوره المتقطع في وسائل الإعلام المصرية والعربية، عليها. فقد نعته وسائل إعلام عربية عديدة بتمجيد سيرته، مثل وصفه بـ"أيقونة الصحافة العربية" و"صحفي القرن" و"ذاكرة مصر والعرب في مائة عام". وكانت زاويته الأسبوعية "بصراحة" في صحيفة "الأهرام" قد أثارت الكثير من الإعجاب والجدل في الوقت ذاته، حتى أنه أُطلق على صحيفة الأهرام في زمنه "أهرام هيكل"، كتعبير عن بصماته قبل أن يتوقف عن كتابتها في الأول من فبراير/ شباط 1974 حين ترك الأهرام بقرار من الرئيس الراحل أنور السادات.

ويعتبر هيكل من أكثر الشخصيات التي أثارت الاهتمام والجدل على امتداد عقود في العالم العربي. فطوراً كان يُنظر له على أنه مطلع كبير على أسرار مطابخ السياسة في الشرق الأوسط، وطورا آخر يجري الاهتمام بما يفكر به. ونظراً لتقاطع أبعاد كثيرة في شخصيته، كصحفي وكاتب، وسياسي، ومقرب من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وخصم لساسة آخرين مصريين وأجانب، فقد كان هيكل مثار جدل كبير.

شاهد على أحداث عصره

كتبه العديدة كانت تعكس غزارة إطلاعه ومتابعاته لأحداث الزمن الذي عاشه وعلاقاته بصناع السياسة في بلدان مؤثرة بالشرق الأوسط وأوروبا وأميركا والاتحاد السوفييتي سابقاً. ففي عام 1951 صدر له كتاب "إيران فوق البركان"، يروي فيه تفاصيل رحلة شهر كامل إلى إيران في حقبة مفصلية من تاريخها الحديث.

وفي عام 1953، عندما أرد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إصدار مؤلف عن توجهات سياسته طلب من هيكل الذي كان آنذاك رئيساً لتحرير "أخبار اليوم"، أن يتولى تحرير الكتاب وصدر بعنوان "فلسفة الثورة".

ومنذ توليه إدارة تحرير صحيفة" الأهرام" في منتصف سنة 1957، وبموازاة الاشعاع الإعلامي الذي أضفاه على الصحيفة المصرية العريقة، صدرت له كتب تعكس مدى حضوره في دائرة اتخاذ القرار في حكم جمال عبد الناصر وعلاقاته المتشعبة بدوائر القرار في كبريات العواصم في العالم.

ففي 1962 ألف كتاب "ما الذي جرى في سوريا" وكان مؤلفاً مهماً يتضمن شهادة هيكل على ثلاث سنوات من الوحدة بين مصر وسوريا في ظل "الجمهورية العربية المتحدة" وانهيارها السريع والتحول الدراماتيكي في سوريا.

وفي كتابه "خبايا السويس" يقدم هيكل قراءته لأحداث تأميم قناة السويس والحرب الثلاثية التي شنتها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر في بدايات حكم جمال عبد الناصر. ولا يكتفي هيكل في هذا الكتاب بتقديم تحليله لأحداث السويس بعد عشر سنوات من وقوعها، وإنما زاوج فيه بين رؤيته للأحداث حيث يرى فيها "مؤامرة" على مصر الحديثة العهد بحكم جمال عبد الناصر، ودراسات لمؤرخين وكتاب بريطانيين أتيحت له فرص محاورتهم.

ظل عبد الناصر

وفي عام 1968 أسس هيكل مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية الذي يعتبر من رواد مراكز الدراسات الاستراتيجية في العالم العربي. ومن خلال أعمال المركز الذي أسسه بتشجيع من جمال عبد الناصر سيجد هيكل مجالاً أوسع للربط بين دوره الصحفي والمعلومات التي تتوفر لديه كرئيس تحرير أكبر صحيفة مصرية وقدراته على التحليل والتفكير وذلك بالاستعانة بنخبة من الخبراء المحليين والأجانب، حتى أصبح مركز الأهرام مرجعاً ومصدراً في صنع الأفكار والسيناريوهات الاستراتيجية لصانع القرار المصري.

وعين هيكل سنة 1970 وزيراً للإعلام وأضيفت له حقيبة وزارة الخارجية لمدة أسبوعين فقط، وفي هذه الفترة التي تتزامن مع نهاية حقبة حكم جمال عبد الناصر، سيظهر من كتابات ومؤلفات هيكل إلى جوانب مهمة من أدواره في مطبخ السياسة المصرية وعلاقات القاهرة الخارجية.

وكان قد صدر له سنة 1968 كتاب "قصة العلاقات المصرية الأمريكية" الذي تضمن رؤيته لمسار علاقات القاهرة بواشنطن خلال عقد حافل بالأحداث الملتهبة بين حربي السويس و1967، ولا يخلو الكتاب من قراءة سلبية للدور الأمريكي إزاء مسار "الثورة المصرية" (ثورة يوليو 1952) ومن دور "متواطئ مع إسرائيل" في حرب 1967 التي منيت فيها مصر بهزيمة مريرة.

ونظراً لأن هيكل كان يُنظر له في عواصم العالم كحامل أسرار جمال عبد الناصر، فقد تلقفت دور النشر في العالم كتابه الذي صدر سنة 1971 باللغة الانجليزية The cairo documentsوترجم إلى 21 لغة، ثم صدر له لاحقاً "وثائق عبد الناصر: أحاديث - تصريحات".

وقد حملت كتاباته إثر وفاة جمال عبد الناصر، التحول السريع من كاتب لخطاب السادات أمام مجلس الشعب في أكتوبر/ تشرين الأول 1973 إبان الحرب، إلى خصومته مع السادات واعتذاره في فبراير/ شباط 1974 عن تولي منصب مستشار للرئيس.

وكان آنذاك تصريحه الشهير لوسائل الإعلام: "إن الرئيس يملك أن يقرر إخراجي من "الأهرام"، وأما أين أذهب بعد ذلك فقراري وحدي. وقراري هو أن أتفرغ لكتابة كتبي... وفقط!".

هيكل ولعبة الكبار

بعد رفضه الالتحاق بقصر عابدين، تفرغ هيكل كما قال في تصريحه للكتابة والنشر، ولكن سيظهر هنا في أدوار مثيرة للاهتمام وذلك من خلال تسليط الضوء على علاقاته بكبار صناع السياسة في العالم. ومنها علاقاته ومقابلاته مع رؤساء الاتحاد السوفيتي مثل بريجنيف ومع زعيم الثورة الإيرانية آية الله الخميني.

وفي مقاله "كيسنجر وأنا.. مجموعة أوراق"، الذي يكشف فيه خلافاته مع زير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، عراب محادثات السلام بين الرئيس السادات والقادة الإسرائيليين التي توجت فيما بعد بتوقيع معاهدة السلام في كامب ديفيد سنة 1978، والتي نشر هيكل بشأنها مؤلفات ومقابلات مكتوبة وتلفزيونية يبرز فيها معارضته لسياسة السلام مع إسرائيل ولصانعيها(السياسة)، وضمنهم ملوك ورؤساء عرب وأجانب. ومنهم العاهلان المغربي الملك الراحل الحسن الثاني والأردني الملك الراحل حسين، مثلما هاجم قبلهما الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة بسبب خصومة هذا الأخير مع الرئيس الراحل عبد الناصر على خلفية دعوة بورقيبة في عام 1965 في خطاب شهير بمدينة أريحا إلى حل الدولتين بين إسرائيل وفلسطين والقبول بالقرار الأممي رقم 149.

"حاطب الليل"

ولأن روايات هيكل غالباً ما تمتزج فيها آراؤه السياسية بالشهادة على الأحداث والمعلومات، فقد كانت مداخلاته تثير ردود فعل عنيفة تصل أحياناً إلى حد اتهامه بـ"التلفيق" و"المغالطة"، وتعقيباً على شهادات لهيكل على أدور الحسن الثاني في حرب التحرير الجزائرية وفي محادثات السلام مع إسرائيل، ذهب عبد الهادي بوطالب مستشار الملك الرحل الحسن الثاني إلى وصف هيكل بـ "حاطب ليل".

وكتب بوطالب في عام 2008 على أعمدة صحف مغربية وسعودية، قائلاً عن هيكل إنه "رجل لا ينتهي عند حد. ولأنه لا ينتهي، فهو يلفق أكثر مما يدقق. أو بمعنى آخر، أنا أرى أن نسبة التلفيق أكثر من نسبة التدقيق في كلامه. وله قدرة على الجمع بين الشيء ونقيضه". واتهم بوطالب، هيكل بـ"الكذب على الأموات والذين لا يستطيعون تكذيب افتراءاته عليهم".

وفي تعقيب على مقالات كتبها هيكل في السنوات القليلة الأخيرة عن السعودية وعلاقاته بملوكها المتعاقبين بدء من الملك فيصل ووصولاً إلى الملك عبد الله، وكذلك على خلفية الخلافات بين مصر والسعودية، خرج السفير السعودي والمندوب الدائم لدى الجامعة العربية، أحمد قطان، عن تحفظه الدبلوماسي وكتب في رسالة رسمية يقول فيها إن هيكل مصاب "بعقدة مع السعودية ودول الخليج"، وإنه مثلاً "تجاهل دور الملك فيصل في حرب أكتوبر 1973".

ومن أكثر الانتقادات التي وجهت لهيكل كونه كان مشاركاً في صياغة "الكتاب الأخضر"للعقيد الليبي الراحل معمر القذافي، الذي كان يعتبر نفسه تلميذاً لجمال عبد الناصر.

ومع تقدمه في السن، ازداد عطاء هيكل الفكري والإعلامي، فقد نشرت له في العقدين الأخيرين مؤلفات سياسية وتاريخية مهمة عن الصراع العربي الإسرائيلي ومحادثات السلام وحروب الخليج. وخلال السنوات الأخيرة قبل وفاته، أثارت مواقف هيكل من الصراع داخل مصر بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الإسلامي المعزول محمد مرسي، ردود فعل متضاربة. وكذلك الأمر بالنسبة للأحداث في سوريا وموقفه من نظام بشار الأسد.

ويتفق مؤيدوه وخصومه على أن رحيله يشكل خسارة كبيرة للصحافة والسياسة في العالم العربي. وقد غرَّد الكاتب الصحفي المصري وائل قنديل وهو ينعى هيكل قائلاً: "لو أن الصحافة كرة أرضية، فإن الأستاذ محمد حسنين هيكل كان القطب الشمالي فيها. ترفضه سياسياً، لكنك لا تستطيع أن تنكر ريادته وفرادته المهنية".

 

منصف السليمي

حقوق النشر: دويتشه فيله 2016