اخفاق استراتيجية القوة الأميركية

بدأت الولايات المتحدة الأميركية حملتها القائمة على أوهام السيطرة على الشرق الأوسط بعد اعتداءات 11 أيلول الإرهابية، فأغرقت نفسها في مستنقع سوف يصعب عليها حتى الخروج منه. باول روجرز يكشف الفجوة القائمة بين أحلام بوش وواقع الفشل الذي انتهت اليه.

بدأت الولايات المتحدة الأميركية حملتها القائمة على أوهام السيطرة على الشرق الأوسط بعد اعتداءات 11 أيلول الإرهابية، فأغرقت نفسها في مستنقع سوف يصعب عليها حتى الخروج منه. البروفيسور باول روجرز يكشف في هذه المقالة الفجوة القائمة بين أحلام بوش في العام 2001 وواقع الفشل المزري الذي انتهت اليه.

يعيش العالم السنة السابعة من الحرب ولا نهاية في الأفق، قبيل ستة أعوام وتحديداً في أواخر كانون الأول/ديسمبر من عام 2001 كان الوضع يبدو مختلفاً للغاية. فقد أطاحت حملة قادتها الولايات المتحدة الأميركية بنظام طالبان في أفغانستان وكان الحديث في أروقة الإدارة في واشنطن عن التحرك للإطاحة بنظام صدام حسين. بعد الصدمة الشديدة التي سببتها وحشية وفظاعة اعتداءات 9/11، كانت إدارة جورج بوش وهي في أوج اندفاعها كقوة أساسية لما بدأ يُسمى "الحرب على الإرهاب" قد بدأت تستعيد رؤيتها عن "العصر الإميركي الجديد".

أطماع واشنطن

في كانون الثاني/يناير 2002 وفي خطاب الرئيس أمام الكونغرس عن حال الاتحاد اشاد في خطابه بالنصر في أفغانستان وتوسيع نطاق الحرب ضد تنظيم القاعدة ليشمل "محور الشر" المؤلف من الدول المارقة (العراق وإيران وكوريا الشمالية). وشدد على هذه الرسالة أيضاً في احتفال تخرج في وست بوينت في حزيران / يوينيو 2002 عندما أكد مجدداً على حق أميركا في استباق أي تهديدات مستقبلية.

وهكذا صار جلياً أن نظام طالبان لم يكن سوى أول الاستئصالات وأن أطماع واشنطن تتعدى ذلك إلى "تغيير النظام" في عدد من البلدان. علاوة على ذلك فانها صارت تتعامل دولياً على أساس "انت معنا أو ضدنا" – وازداد تمسكها بهذه المقولة عندما بدأت تُكثف تحضيراتها للحرب على العراق في 2002 - 2003.

وبالفعل تم الاحتفال باطاحة نظام صدام حسين خلال حرب آذار/ مارس – نيسان / أبريل في خطاب آخر ألقاه على مدرج حاملة الطائرات الأميركية أبراهام لينكولن في شهر أيار / مايو وكانت السفينة تحمل لافتة كبيرة كتب عليها " المهمة أنجزت".

في هذا الوقت - ربما في ذروة التعجرف الأميركي تجاه أفغانستان والعراق التي اعتبرتهما نصراً لها وقبل وصول العصيان والتمرد في العراق إلى نقطة حرجة – بدا الطريق واضحاً لواشنطن لتمهد لمشروعها السياسي والعسكري الأكبر والأجرأ: التغيير الإجمالي لدول الشرق الأوسط ومحيطها.
كان من المفترض أن تتحول أفغانستان إلى دولة موالية لأميركا تحتضن قواعد عسكرية دائمة في باغرام وقندهار، كما كان يتوجب على البلاد تسهيل وصول أنابيب بترول جديدة إلى المحيط الهندي. وكان من شأن المحطة الأساسية في أوزبكستان (وربما غيرها من دول آسيا الوسطى) أن تعزز نفوذ الولايات المتحدة في المناطق الغنية بالنفط حول حوض بحر قزوين وإنجاز المهمة الجيوسياسية الحرجة في مواجهة نفوذ روسيا والصين.

المشروع الحلم

هذا وحده يعني رؤية فوق العادة، ولكن العراق سوف يكون جائزة أكبر. فقد تم إستبدال هيمنة صدام حسين بهيمنة شاملة لسلطة تحالف مؤقتة تحت إدارة بول بريمر. إذا أعدنا كتابة تاريخ ادارة سلطة التحالف المؤقتة بشكل مناسب فقد توحي بأنها كانت رمزاً للفوضى والعشوائية، بل وغضت النظر عنهما، وهذا غير صحيح: في الواقع كانت تلك خطة محكمة للمحافظين الجدد تتمثل بإنشاء نظام عميل غير عادي ضمن اقتصاد السوق الحر.

وكانت النية متجهة لإجراء خصخصة شاملة لجميع الأصول المملوكة للدولة (مع العلم أن المستثمرين الأجانب أدخلوا معهم شركات اسرائيلية) وتعزيز التدخل الأجنبي في صناعة النفط وإرساء نظام موحد للضرائب، كل ذلك يدعمه غياب فعلي للنظام المالي. وكانت النتيجة المتوقعة نوعاً من "اقتصاد رائع"، نظاما من المستحيل تنفيذه في الولايات المتحدة نفسها نظراً للوجود المزعج للنقابات والحركات المدنية والأنظمة التجارية وغيرها من العقبات.

فبإمكان الولايات المتحدة تحقيق خيالها الاقتصادي من خلال إرساء حكومة عميلة في العراق، تحميها (وتراقبها) عن طريق شبكة من القواعد العسكرية في جميع أنحاء البلاد. والحقيقة أن عشر احتياط العالم من النفط موجود تحت تربة العراق ومياهه (أربعة أضعاف احتياطي الولايات المتحدة بما فيها ألاسكا) مما يعني أن وجود العراق في قبضة أميركا سيعزز الأمن النفطي في الوطن.

والأفضل من هذا كله فإن نجاح الاستراتيجية يُحرج العدو الحقيقي إيران إلى درجة أنها قد تُلغي ضرورة الاطاحة بنظام طهران. وعلى كل حال فبوجود الدولتين المجاورتين (أفعانستان في الشرق والعراق في الغرب) في القبضة الأميركية وبسيطرة البحرية الأميركية على مياه الخليج الفارسي وبحر العرب سوف تفكر النخبة الحاكمة في طهران مليا - أياً كان انتماءها السياسي – قبل تعريض أمنها القومي للخطر.

الهوة الكبرى

هذه الخطة والتوقعات كانت في أيار / مايو 2003 . ولكن كيف ينظرون اليوم إلى ضوء الحقيقة البارد؟ حققت طالبان وغيرها من الميليشيات عودة ملحوظة في أفعانستان وهم الآن يحاصرون أكثر من خمسين ألفاً من القوات الأجنبية. وفي غرب باكستان، ثمة مساحات شاسعة تكمن خارج سيطرة الحكومة ومتاحة لتنظيم القاعدة وحركة طالبان ومواليها وتشكل أرضاً آمنة للتحضير وتنفيذ العمليات والاستراحة منها (أنظر أنطونيو غيستوزي، "عودة طالبان الجدد"، كانون الأول / ديسمبر 2007).

وفي العراق قُتل أكثر من مائة ألف مدني جراء أعمال العنف وهجر حوالي أربعة ملايين من بيوتهم (اضطر بعضهم لطلب اللجوء إلى دول أخرى). ويُعاني عشرات الآلاف من العراقيين من أمراض وسوء تغذية بما فيها أمراض الفقر مثل الكوليرا. واعتقل أكثر من مائة ألف عراقي دون إجراء محاكمة لهم. وتشمل الخسائر البشرية ثلاثة آلاف وثمانمائة وخمسة وتسعين جندياً أميركياً (بناء على احصائيات لغاية تاريخ 19 كانون الأول / ديسمبر 2007) وجرح عشرات الآلاف منهم.
وقد أدى رفع عدد القوات الأميركية في العراق إلى كبح العنف فيه، إلا أن هذه السياسة غير مجدية وتم اللجوء إليها كتكتيك قصير الأجل وقد تؤدي إلى مشاكل ستظهر لاحقاً. وبالرغم من حديث إدارة بوش عن "تخفيض قواتها" في العراق، فإن الالتزام بالبقاء فيه واضح من خلال المفاوضات على صفقات طويلة الأجل مع حكومة نوري المالكي وتشييد أكبر سفارة أميركية في العالم في بغداد.

وفي الوقت نفسه فإن الضغط على الجيش الأميركي في أفغانستان (وعلى غيرها من قوات حلف الناتو) يُعتبر بمثابة دعوة لتحويل القوات إلى هناك. إلا أن معظم دول حلف الناتو مصرة على قرارها في عدم توريط نفسها أكثر هناك. كما أن بقاء حجم القوات القوات الهولندية والكندية على حاله أمر مشكوك فيه.

وفي المقابل، فإن تنظيم القاعدة آخذ في الانتشار. فاسمها قادر على جذب المجندين وإقامة الشبكات والتدخل في صراعات محلية وتنفيذ عمليات قاتلة (كما حصل في الجزائر في الحادي عشر من كانون الأول / ديسمبر). إن استخدام سياسة "القوة المفرطة" أثبت أنه بمثابة هدية لأعداء الولايات المتحدة.

الإجابة الخطأ

ألقت الحقيقة ضوءاً قاتماً على القرارات التي اتخذت مباشرة بعد الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001 والأفكار التي تم طرحها آنذاك.

كانت الإجابة على وحشية وفظاعة اعتداءات نيويورك وواشنطن خطأ منذ البداية. فمنظمة القاعدة تُعتبر بمثابة عصابة مقربة للشيطان تتألف من زمرة من المتطرفين يميلون فقط للموت والدمار بدلاً من كونها حركة ثورية وطنية قائمة على إيديولوجيا أساسها الدين. ولا يتوقع قادتها وإيديولوجيوها – كحال غالبية الحركات الثورية – أي نجاح في حياتهم قائم على مثل هذا الأساس.

حتى هذه الأهداف قصيرة الأجل مثل طرد القوات "الصليبية" من أراضي المسلمين وتدمير نخبة أنظمة "العدو القريب" في الشرق الأوسط، سوف تستغرق عقوداً من الزمن، إذ أن الأهداف طويلة المدى مثل انشاء خلافة اسلامية قد يستغرق قرناً من الزمن (أنظر: "تنظيم القاعدة: الوقت في صفه"، الصادر في الرابع من حزيران / يونيو 2007).

وجاء رد إدارة بوش على هذه المنظمة ردا قائما على القوة غالباً وهذا ما كانت تريده المنظمة تحديداً، حيث بدأت بتصوير الحملات الأميركية على أفعانستان والعراق (بواسطة حملة محنكة يُستخدم فيها أحدث أنواع التكنولوجيا وتخاطب الشعور والأحاسيس الشعبية) على أنها إهانة من رف "الصليبين" (والصهاينة) ضد قلب العالم الإسلامي (أنظر/ "لا راحة بعد صدام" صدر في 19 كانون الأول / ديسمبر 2003). علاوة على ذلك استفادت القاعدة وحلفاؤها استفادة جمة من الوضع في كلتا الدولتين حيث توفرت لها مناطق تدريب قتالية للجيل الجديد من الميليشيات الشابة.

بوش في المصيدة

لا شك أن رداً على اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، قائماً على العقل وبعد النظر كان ليحقق نتائج انسانية عالمية كبيرة وكان التعامل مع هذه الأحداث الإجرامية على أساس انها أمثلة مرعبة على الإجرام الخارجي سيمكن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الراغبة من بناء تحالف عالمي مهول لإخضاع المجرمين للعدالة. كان يمكن للعملية أن تستمر أعواماً وكانت ستكون عملية معقدة وصعبة لكن ذات فوائد واضحة: قطع الامدادات المحدودة للقاعدة وتجنب المصائب والويلات في أفغانستان والعراق وتكاليفها البشرية الهائلة.

إلا أن بوش وقع عوضاً عن ذلك في المصيدة. فمنذ ذلك الوقت، قُتل عشرات الآلاف من الأبرياء (في أفغانستان والعراق وغيرها من مسارح "الحرب على الإرهاب")، وتم اعتقال عدد أكبر تم تعذيب أغلبيتهم وإهانتهم. وضع رد الواشنطن على الحادي عشر من سبتمبر حجر الأساس لصراع يدوم عقودا (أنظر "حرب الثلاثين عاماً"، صدر في الثالث من نيسان / أبريل 2003).

النموذج القادم

إن الظروف المحيطة بـ "مبدأ السيطرة" في التفكير العسكري للولايات المتحدة تعني أنه من الصعب تصور أي تغيير يُذكر في سياستها ناهيك عن وضعه في حيز التنفيز - حتى إذا استلم الديمقراطيون مقاليد الحكم في تشرين الثاني / نوفمبر القادم. لكن الواقع سوف يفرض إرادته آجلا أم عاجلا: سوف يُعترف بالنتائج العكسية للحرب على الإرهاب وسوف يتم وضع سياسات أكثر تعقلاً.
ثمة بصيص أمل في الواقع مع أنه ربما يكون أكثر الصفات سلبية لسياسة السنوات الست الأخيرة. أعطى الفشل الحقيقي لتلك السياسات مجالاً ليعيد الغرب التفكير بقضايا الأمن والتي قد تمتد إلى قضايا أكبر تخص الأمن الدولي (أنظر "الأمن الدولي: رؤية للتحول" صدر في الحادي عشر من نيسان / أبريل 2007).

من المرجح أن تكون الدوافع الحقيقية للصراع بين عامي 2008 و2030 في القضايا العالمية متفاوتة العمق تتعلق بالضعف الاقتصادي والحركات الشعبية والقيود البيئية – يعززها جميعاً تغيير المناخ. في مثل تلك الظروف سيكون من السهل جداً أن نرى المتطلبات الأمنية الغربية الأساسية في الحفاظ على السيطرة في عالم ممزق. ستدخل الحرب عامها السابع، وليس ثمة بصيص أمل في الأفق لوضع حد لها، والاخفاقات الاستخبارية التي تسببت باندلاعها قد تشكل نقطة انطلاق لنهج جديد للحفاظ على الأمن البشري وأمن كوكبنا لعقود آتية.

بقلم باول روجرز
ترجمة منال عبد الحفيظ شريده
حقوق الطبع اوبن ديموكراسي 2007

باول روجرز هو أستاذ لدراسات السلام في جامعة برادفورد في شمال انكلترا. وكان قد بدأ بكتابة مقال أسبوعي عن الأمن العالمي في مجلة اوبن ديموكراسي منذ السادس والعشرين من سبتمبر/أيلول 2001.

قنطرة

الإرهاب والسياسة
لقد تغير العالم بعد مرور أربعة أعوام على هجمات نيويورك وواشنطن، ولكن ليس هناك ما يدعو إلى السرور، فالتغيير لم يأت بعالَم أفضل ولكنه أصبح أكثر خطورة واضطرابا وتناقضا. تعليق الصحفي الألماني بيتر فيليب

العنف بين الحداثة والدين
أصدر معهد العلاقات الخارجية دراسة تناولت موضوع العنف في الماضي والحاضر. تشكّل هذه الدراسة التي أعدها باحث ألماني وباحثان عربيان قاعدة للحوار بين المثقفين من الدول الغربية ومن الدول الإسلامية. عرض منى نجّار