بين المنع والرقابة الذاتية

على الرغم من الفترات القصيرة، التي تمتعت فيها الصحافة في إيران بحرية نسبية، ما زال الخناق يضيق حتى اليوم على الصحفيين المستقلين. جاسم تولاني يقدم لمحة عن تاريخ الصحافة وحدود حريتها خلال ثلاثين عاماً من تاريخ جمهورية إيران الإسلامية.

صورة لهيئة تحرير شاراق، الصورة: ا.ب
"تميز عهد نجاد بتضييق كبير على الصحافة والإعلام"

​​ ليس من الدهشة أن يمارس القمع ضد وسائل الإعلام في جمهورية إيران الإسلامية. فقد تحدث قائد الثورة آية الله الخميني في خطاب له عام 1963 بصراحة ضد حرية الصحافة. وبدا أيضاً نابعاً عن حسابات سياسة السلطة، حيث وصف عشية انتصار الثورة الإسلامية 1979 بـأنه "مؤيد لحرية الرأي". وألغى شابور باختيار، آخر رئيس وزراء في حكومة الشاه، الرقابة في إيران قبل شهر من الثورة. ومن خلال إلغاء الرقابة باتت وسائل الإعلام في وضع مكنها من تأييد التغيير السياسي باستقلالية.

"ربيع الحرية" القصير

ومن خلال تغطيتها للاضطرابات المتزايدة في جميع أنحاء إيران ونشر تصريحات الخميني، الذي كان ينتظر موعد عودته من باريس، استطاعت الصحافة الإيرانية أن تشترك بشكل فاعل في أحداث الثورة وأن تؤيد انتصار الثورة الإسلامية. وبعد إسقاط الشاه عن عرش الطاووس مباشرة، عاشت الصحافة الإيرانية "ربيع الحرية" لأمد قصير.

لكن مجلس قيادة الثورة أصدر قانوناً جديداً للصحافة بعد أشهر قليلة من انتصار الثورة الإيرانية، وفرض هذا القانون بعض القيود على وسائلا الإعلام في إيران. ولم تتمكن الحكومة المؤقتة برئاسة رئيس الوزراء الليبرالي مهدي بارزكان، التي لم توافق مطلقاً على هذه القيود الواسعة على حرية الصحافة، سوى من إبداء معارضة بسيطة على هذا الأجراء.

وفي النهاية قادت الخلافات بين الحكومة ومجلس قيادة الثورة القوي إلى تهميش الحكومة. وباستقالة بازركان أصبح الطريق في النهاية ممهداً لمزيد من الراديكالية في الجمهورية الإسلامية. ومن خلال إصدار الدستور الإيراني أصبح للزعيم الديني صلاحيات حكم غير مقيدة. على الرغم من وعود آية الله الخميني قبل انتصار الثورة الإسلامية في رجال الدين سوف لا يكون لهم دور سياسي فاعل في الحكومة المستقبلية.

وبعد أشهر قليلة على انتصار الثورة مُنعت صحيفة "آينديكان" بعد تحذيرات آية الله الخميني لخطاب وسائل الإعلام الليبرالية، كما احتلت الصحيفتان اليوميتان في البلد "إطلاعات" و"كيهان" من قبل الثوريين الشباب ومن ثم تم تأميمهما.

الحرب "رحمة إلهية"

الخميني، الصورة: ا.ب
الخميني وصف الحرب العراقية الإيرانية بالرحمة الإلهية لتضييق الخناق على حرية الصحافة

​​ قادت الحرب العراقية الإيرانية إلى مزيد من الراديكالية في الجمهورية الإسلامية، بعد أن هاجم الرئيس العراقي السابق صدام حسين بمهاجمة إيران عام 1980 مدعوماً من قبل الكثير من الدول الغربية. وفيما بعد وصف الخميني هذه الحرب، التي استمرت ثمانية أعوام، بـ"الرحمة الإلهية". وفتح الصراع الباب أمام آيات الله للتمكن من القضاء على بقايا المعارضة داخل إيران بشكل نهائي ووضع وسائل الإعلام تحت مزيد من الضغط.

وفي عام 1981 فقط تم منع 175 صحيفة ومجلة. وفي نهاية الحرب عام 1988 لم يبلغ عدد الصحف والمجلات الصادرة في إيران أكثر من 121 صحيفة ومجلة. ويصف الصحفي الإيراني المعروف مسعود بهنود تلك الفترة بـ"أكثر الأوقات ظلمة في تاريخ الصحافة" في إيران. فقد أضطر أكثر الصحفيين النقديين على مغادرة البلد أو التخلي عن عملهم الصحفي.

وبعد الحرب ازداد عدد الصحف والمجلات تحت حكم الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رافسنجاني مجدداً. وكان الرئيس التالي خاتمي حينها مسؤولاً عن وسائل الإعلام بحكم منصبه كوزير للثقافة. وخلال فترة حكم رافسنجاني تم أيضاً تأسيس إصدار الصحيفتين الكبيرتين "هامشاري" و"إيران" بمبادره من قبل ما يسمون بالتكنوقراط.

وشكل إصدار الصحيفتين تغييراً كبيراً على خارطة الصحافة الإيرانية، فقد دعمتا خلال السنوات اللاحقة عملية الإصلاح خلال فترة حكم خاتمي بشكل خاص. كما أصدرت القوى الدينية-الوطنية مجلات مثل "كيان" و"آدينيه"، اللتان مارستا دوراً مهماً في عملية الليبرالية المشروطة في خارطة الصحافة.

أما صحيفة "سلام" النقدية الاجتماعية فقد أُسست هي الأخرى خلال فترة رئاسة رافسنجاني من قبل مجموعة من رجال الدين ذوي التوجهات اليسارية. واتخذت هذه الصحيفة منذ بداية صدورها منحى نقدياً تجاه الحكومة السابقة. وفي انتخابات الرئاسة عام 1997 لعبت صحيفة "سلام" دوراً لا يستهان به في دعم الإصلاحيين، ما أدى في النهاية إلى خروج خاتمي فائزاً فيها.

رواد الصحافة الإصلاحية في إيران

محمد خاتمي، الصورة: أ.ب
كان ينظر إلى خاتمي على أنه رجل الإصلاح والتغيير

​​ يمكن اعتبار الصحف والمجلات، التي أصدرها المثقفون الإسلاميون في إيران بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية، كرواد للصحافة الإصلاحية، التي أخذت بالظهور فيما بعد. لكن الصحافة الإصلاحية لم تصل إلى ذروتها إلا في عام 1997.

فبعد وصول محمد خاتمي إلى الحكم عام 1997، عين الليبرالي آية الله مهاجراني وزيراً للثقافة في حكومته. ومنح مهاجراني بسخاء تراخيص لصدور صحف ومجلات جديدة، الأمر الذي مثل ربيعاً ثانياً للحرية بالنسبة للصحافة في تاريخ الجمهورية الإسلامية. لكن معرضي الإصلاحيين لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذا الأمر.

ففي عام 1998 منع القضاء الإيراني صحيفة "جامي" ذات الشعبية الكبيرة. كما لقيت الصحيفتين التاليتين لها "توس" و"صبح آزاديفان" المصير ذاته. ومن ثم تم منع صحيفة "سلام" ذات التأثير الكبير، ما أدى إلى نشوب اضطرابات طلابية عام 1999.

وحتى عام 2000 أمر المحافظون بمنع أكثر من 80 صحيفة ومجلة، لكن العاملين في هذه الصحف تمكنوا من مزاولة نشاطهم الصحفي في الصحف الصادرة حديثاً. وفي بداية فترة رئاسة خاتمي لم يتجرأ المحافظون على منع أي صحيفة من دون أمر قضائي. وفي الأعوام اللاحقة أصبح المحافظون أكثر عدوانية وباتوا في وضع يمكنهم من منع الصحف غير المرغوب فيها حتى قبل صدورها. وتجاه ذلك لم يرغب أو يتمكن رئيس الدولة الإصلاحي خاتمي من فعل أي شيء يُذكر.

الصحف الإصلاحية بمثابة "قواعد للعدو"

في صيف 2000 وصف الزعيم الديني خامنئي في إحدى خطبه الصحف والمجلات الإصلاحية كـ"قواعد للعدو". وبعد أيام قليلة على ذلك مُنعت جميع الصحف الإصلاحية تقريباً "بشكل مؤقت" بقرار من المدعي العام في طهران.

وكانت هذه الخطوة تعني أن على ناشري هذه الصحف أن ينتظروا محاكمتهم قضائياً، كي يتمكن القضاء من البت في مصيرها نهائياً. لكن أغلب هذه المحاكمات ضد الصحف والمجلات الممنوعة بشكل مؤقت كما أُدعي لم تجري مطلقاً.

وخلال فترة حكم رافسنجاني تم أيضاً تأسيس إصدار الصحيفتين الكبيرتين "هامشاري" و"إيران" بمبادره من قبل ما يسمون بالتكنوقراط

​​ وكاستراتيجية مضادة طلبت دور النشر، التي تم منع صدور صحفها، بشكل عاجل تراخيص لإصدار صحف جديدة. ومنح وزير الثقافة مهاجراني ذو النهج الليبرالي هذه التراخيص بشكل أساسي. وكانت هذه العملية بمثابة "لعبة القط والفأر" بين القضاء المحافظ ووزارة الثقافة التي كانت تهيمن عليها القوى الليبرالية.

لكن مهاجراني أضطر في النهاية إلى الاستقالة تحت ضغط المحافظين. ولم يستطع خلفه أحمد مسجد جامعي من مواصلة سياسة سلفه، التي أتسمت بالتسامح. ولذلك تمت المماطلة في عملية منح تراخيص إصدار صحف جديدة، فُمنع بذلك إصدار الصحف الممنوعة بتسميات جديدة أخرى.

وأدت المخاوف المتزايدة من غلق المزيد من الصحف وفقدان الصحفيين لوظائفهم، إلى لجوء هؤلاء الصحفيين والصحف إلى استخدام الرقابة الذاتية أيضاً. وانتشرت بين الصحفيين الإيرانيين، توضح أسباب اللجوء إلى الرقابة الذاتية: "توجد في إيران حرية رأي، لكن الحرية تختفي ما أن يعبر المرء عن رأيه!"

وقبل الانتخابات الرئاسية في عام 2005 كانت الصحافة الإصلاحية قد أُضعفت بشكل دائم لدرجة أنها لم تعد قادرة على تعبئة السكان تأييداً للإصلاحيين. إضافة إلى ذلك أُصيبت الغالبية العظمى من السكان أيضاً وبشكل خاص خلال السنوات الأخيرة من حكومة خاتمي بخيبة أمل من سياسته ومن الإصلاحيين عموماً، لأنهم لم يلبوا وعودهم الانتخابية.

وسائل الإعلام في فترة حكم أحمدي نجاد

مع تولي أحمدي نجاد لرئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية ساءت أحوال الصحافة في إيران بشكل واضح. فينما كانت وزارة الثقافة ما تزال تدعم الصحافة خلال رئاسة خاتمي، تغيرت هذه الوزارة خلال حكم أحمدي نجاد لتتحول إلى جهاز لمراقبة الصحافة النقدية.

وبذلك تحولت سياسة منح تراخيص إصدار الصحف والمجلات الجديدة بسخاء إلى سياسة لمنع منحها مسبقاً؛ لدرجة أن بعض وسائل الإعلام المحافظة آخذت تشعر بتبعات التشدد في السياسة الإيرانية. لذلك تم منع مجلة "بازتاب" الإليكترونية المقربة من المحافظين على سبيل المثال من قبل وزارة الثقافة.

وفي بداية شهر كانون الثاني/ يناير من هذا العام منعت وزارة الثقافة كذلك صحيفة كارغوزاران المقربة من تيار رافسنجاني التكنوقراطي، بسبب نشرها بياناً لإحدى الروابط الطلابية، اتهمت فيه حركة حماس الإسلامية المتشددة باستخدام المدنيين في قطاع غزة كدروع بشرية.

وعلى الرغم من جميع هذه القيود فإن الصحفيين الإصلاحيين والصحافة الإصلاحية في إيران تزداد فاعلية وتعد من حملة التغيير الديمقراطي. وفي الحقيقة نشأ بعد بدء عملية الإصلاح في عام 1997 وعي ذاتي جديد بين الصحفيين المستقلين عن الحكومة الإيرانية. وبات من الصعب اليوم السيطرة على جيل جديد من الصحفيين في إيران، ومن أسباب ذلك استخدام هؤلاء الصحفيات والصحفيين الشباب للإنترنت بشكل أكبر، بعد أن باتت الصحافة المطبوعة في جمهورية إيران الإسلامية في قبضة قوى المحافظين.

جاسم تولاني
ترجمة: عماد م. غانم
حقوق الطبع: قنطرة 2009

جاسم تولاني: صحفي إيراني يعمل محاضراً للدراسات الإيرانية في جامعتي غوتنغن وبون.

قنطرة

حقوق المرأة في إيران:
استراتيجية الخطوات البطيئة
على الرغم من أنَّ وضع المرأة قد تحسَّن بعد ثلاثين عامًا من الثورة الإسلامية في إيران، لكن ما تزال توجد فيه عيوب ونواقص كبيرة. ويتَّضح هذا أيضًا في مثال المحامية الإيرانية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، شيرين عبادي التي طالتها أيضًا يدّ الملاحقة. تقرير من كاتايون أميربور.

قانون الأسرة المزمع إصداره في إيران:
"ترخيص مجاني للرجال الراغبين بتعدد الزوجات"
تسود حالة من القلق لدى المدافعات عن حقوق المرأة في إيران في ضوء خطط الحكومة الإيرانية إصدار قانون جديد من أجل "حماية الأسرة" الذي ترى فيه الحركات النسائية بأنه لا يراعي الشؤون الأسرية ويهضم حقوق المرأة ويسمح للرجل بتعدد الزوجات دون ضوابط وقيود. دورنا حاتملوي تستعرض هذا القانون وإشكالياته..

ضغط على صحفيي إيران المستقلين:
تضييق تضييق ورقابة وقمع
تقلّصت في ظل الرئيس أحمدي نجاد الحريات السياسية بالنسبة للصحافة المستقلة عن الدولة والناقدة للنظام. كما ازداد استهداف المدوِّنين وأعضاء منتديات الإنترنت من قبل المتشدِّدين وحرّاس الفضائل والأخلاق الإسلاميين. تقرير من أريان فاريبورز.