"القبليَّة والتطرف فزَّاعة القذافي للاستمرار في الحكم "

يرى برهان غليون المفكر العربي وأستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة السوربون في باريس، أن نظام القذافي هو من خلق حالة الفوضى وأطلق فزَّاعتي الانقسام القبلي والتشدد الإسلامي بهدف مواصلة سيطرته على الشعب الليبي وحكمه قهرا لمدة 42 عاما. منصف السليمي في حوار مع المفكر برهان غليون.

، الصورة ا.ب
تتحدث مصادر عدة عن أن الطيران الليبي قصف مناطق من العاصمة طرابلس في محاولة لمواجهة الاحتجاجات المتواصلة في البلاد.

​​

هل تعتقد أن نظام الزعيم الليبي معمر القذافي يمكن إصلاحه من خلال ما طرحه نجله سيف الإسلام، بشأن إقامة جمهورية ثانية في ليبيا بدستور جديد؟

برهان غليون: لا أعتقد أن ما ورد في خطاب سيف الإسلام يقنع الليبيين،خاصة أنه قدم هذه المقترحات كمنَة على الشعب الليبي، قائلا إنه مستعد في هذه الظروف للقيام بعمليات تغيير سياسي. والأسوأ أنه عرض أفكاره في سياق تهديد لليبيين بأنهم سيواجهون حربا أهلية، وبأن والده القذافي في طرابلس وهو يقود المواجهة ضد الانتفاضة. وقد قال سيف الإسلام بأنهم (أي هو ووالده) سيستمرون في المواجهة حتى آخر طلقة نار. وهذه مفارقة لأنه ليس هنالك زعيم سياسي في التاريخ، يهدد شعبه بالحرب والقتل إذا لم يقبل بالحوار والتصالح، بما أن الموضوع الأساسي هو إيجاد صيغة للتصالح مع الشعب من أجل وقف الاحتجاجات. اعتقد أن خطاب سيف الإسلام نموذج معبر بوضوح عن طبيعة النظام القائم في ليبيا، وهو في حقيقة الأمر ليس بنظام سياسي.

ماذا تقصد بأنه ليس بنظام سياسي؟

غليون: هنالك نظام في ليبيا ولكنه ليس بنظام سياسي ولا يمكن أن يُصلَح أو يُغيَّر، وهو في حقيقة الأمر نظام قائم على حكم عصابة لها موالون توزع عليهم المنافع، ولكن لا يتم الحكم استنادا إلى سياسة محددة. وما يصدر عنه يعتبر كلام مجرمين وليس سياسيين أو مسؤولين، فكيف يخاطبون شعبا بهذه الصيغة التي لا تحمل أي اعتبار أو احترام له. ولذلك اعتبر أن ما هو قائم في ليبيا ليس بنظام سياسي بل نظام سيطرة بالقوة على شعب من أجل السطو على موارده النفطية...
وإذا قارنا خطاب نظام القذافي بوعي الشعب الليبي وبدعوات شيوخ العشائر والقبائل الليبية للثورة على الطاغية، وبدعوتهم إلى إقامة نظام سياسي ديمقراطي، يتبين للمرء الفرق الكبير بين هذه الزمرة الحاكمة التي انخلعت عن شعبها ولم يعد لها أي مفهوم للسياسة، وبين الشعب الذي، وبالرغم من تركيبته القبلية، ما يزال يؤمن بالسياسة والمؤسسات والدولة وباحترام القانون، وبالتصالح والتفاهم بين أبناء مختلف طبقات وفئات المجتمع. ولذلك أرى بأن خطاب سيف الإسلام مهين للشعب الليبي.

هل إن بنية المجتمع الليبي ذات الطابع القبلي وغياب مؤسسات الدولة بالمعنى الحديث، سيجعل مهمة بناء مؤسسات سياسية جديدة صعبة في مرحلة ما بعد نظام القذافي؟

الصورة ا.ب
الأنباء تتحدث عن "مجازر" ارتكبها نظام القذافي بحق المتظاهرين

​​

غليون: لا على الإطلاق، لأن القبائل العربية على مر التاريخ هي التي بنت الدولة والإمبراطورية الإسلامية. إن فكر القبيلة لا يعني بالضرورة العداء والتعارض مع الدولة. فالقبائل تتفاهم وتتعاقد على قيام الدولة، وكل الدول العربية بنيت على تفاهم بين النخب المدينية (نخب المدن) وزعماء القبائل، وحتى فترة قريبة كانت البرلمانات في الخمسينات تتكون من زعماء العشائر الذي يمثلون أهلهم، كسبيل لضمان الوحدة الوطنية.

ولكنني مبدئيا أعترض على هذه الصورة النمطية التي تقدم عن المجتمع الليبي بكونه مجتمعا قبليا، هنالك قبائل أجل، لكن هنالك أيضا مجتمع حضري (من المدن) متطور مثل غيره من شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا يمكن أن ننفيه، لأن القذافي نفاه (أي المجتمع المديني) وعرضه للتفكيك والقهر.

وكيف يمكن مساهمة البنية القبلية في مؤسسات الدولة الحديثة؟

غليون: أعتقد أن الليبيين قادرون بفضل نخبهم المدينية الواعية، وهي لا تقل وعيا عن نخب البلدان العربية الأخرى، وبفضل التعاون مع زعماء القبائل والعشائر، بأن يقودوا جميعا حملة بناء مؤسسات الدولة، وفق معادلة تفاهم وتعاقد، يتم في إطارها تلبية مطالب العشائر والقبائل وهي تتلخص في تحقيق التنمية والعدالة وتوفير الخدمات ومرافق الصحة والتعليم ورفع مستوى معيشة أبناء القبائل، وهم لا يطالبون بتولي الحكم. وقد انتهى العصر القبلي، وما يتردد هو مجرد فزَّاعة تم تضخيمها من قبل حكم القذافي وجعلها كحاجز يغطي على الآخرين فهم ما يجري في المجتمع الليبي والتستر على الكارثة الاجتماعية التي ارتكبها في حق بلده. لأنه نظام أفرغ الدولة من كل مضمون.

بعد أربعة عقود من حكم القذافي، يوجد فراغ سياسي في ليبيا وليس بها مجتمع مدني ولا أحزاب ولا نقابات، بخلاف تونس أو مصر التي لعبت فيها هذه المؤسسات دورا مهما بعد الثورة، الا تعتقد أن ليبيا ستواجه مرحلة صعبة بعد نظام القذافي؟

، الصورة ا.ب
سقوط مدينة بنغازي بأيدي المنتفضين وفق مصادر متعددة

​​

غليون: أعتقد أن الصعوبات ستكون أكبر من حالتي مصر وتونس، ولاشك أن إسقاط القذافي سيكون مهمة أصعب من إسقاط مبارك وبن علي، لأننا لسنا أمام نظام يمتلك الحد الأدنى من مفهوم السياسة وقيم العصر. ولكن ليس هنالك ما يحول دون بروز مجتمع مدني في ليبيا ويلتحم فيما بينه ويتفق على إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية. واعتقد أن النظام التعددي البرلماني هو القادر على استيعاب هذه الحالات في المجتمعات التي لا تتوفر على مجتمع مدني قوي ومنظم بسبب تعاقب الحكومات المتسلطة. ومن شأن هذا النظام ( التعددي البرلماني) أن يسمح للشعب بإعادة ترتيب أوضاعه وتحقيق المصالحة بينه وبين السياسة وإعادة توزيع السلطات بشكل مرن وقابل للتطوير.

هل يمكن مقارنة المرحلة التي يجتازها المجتمع الليبي بحالات أخرى في محيطه العربي أو الإفريقي، وهل هناك بدائل مساعدة، مثلا دور الجيش؟

غليون: يمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى تجارب الدول الإفريقية التي تبنت النظام التعددي وهي أكثر قبلية من ليبيا وبعض الدول العربية. وفي مصر التي هي دولة عريقة تمتد إلى آلاف السنين، كان فيها مجتمع مدني ضعيف جدا، ومن تولي عملية إعادة بناء النظام هو الجيش. وفي ليبيا هناك جيش وهو يستطيع كمؤسسة أن يلعب دورا مع بقية أطراف المجتمع والقوى السياسية والقبلية، من أجل إعادة بناء الدولة. وهذه مهمة لن يجد الشعب صعوبة في تحقيقها طالما هو متماسك وموحد حول رفضه لحالة الفوضى التي كانت الهدف والشرط الأساسي من أجل استمرار حكم القذافي وعائلته. وأعتقد أن الثورة القائمة في ليبيا هي ضد القذافي وضد الفوضى والتمزيق الذي خلقه في المجتمع.

هنالك بعض المراقبين الذين يتخوفون من هيمنة التيارات الإسلامية وبعضها متشددة في ظل ضعف القوى السياسية
الليبرالية والحداثية في البلاد؟

الصورة دويتشه فيله
برهان غليون يرى أن النظام التعددي البرلماني يشكل بديلا مناسبا لبناء نظام حديث في ليبيا

​​ غليون: ليس هنالك شيء مضمون بشكل تام، فنحن بصدد تحول حقيقي وانقلاب بالمعنى السياسي والفكري. ولكن ما يبعث الأمل هو أن حركة الثورة الليبية ليست منفصلة عن سياق حركة الثورة العربية القائمة اليوم من أجل الديمقراطية، وهي جزء من عملية إعادة وضع ليبيا في سياق هذه الثورة كما حدث في سياقات تاريخية أخرى. وأعتقد أن سياق التحول الديمقراطي في المنطقة سيكون عنصر ضغط وتشجيع لليبيين بمختلف خلفياتهم القبلية والحضرية أو السياسية على أن يقتفوا اثر الشعوب العربية الأخرى ويتعاونوا معها ضمن هذه الحركة الديمقراطية الشاملة. وليس لدي تخوف من أن الإسلاميين سيتمكنون من الهيمنة على الوضع، لأن الرأي العام العربي يشعر أن من أنقذ أو من هو في طريق إنقاذ مصير الشعوب العربية هم ليسوا الأحزاب أو الجماعات الإسلامية وإنما هو الشعب. إنه الشعب الذي لم يكن منضويا في أطر تنظيمية هَبَّ من أعماقه في صحوة من أجل إنقاذ مستقبله والتحكم في مصيره. ولذلك لا أرى مجالا للخوف من أن تسيطر الجماعات الإسلامية المتطرفة على الأوضاع، بالرغم من أنه ستكون هنالك أحزاب تستلهم الإيديولوجية الإسلامية والدين، ولكن ليس إلى حد أن تكون عقبة أمام تشكُّل دولة تعددية حديثة في العالم العربي.

ألا تعتقد أن ثروات ليبيا الهائلة واتساع رقعتها الجغرافية، يمكن أن تشكل تهديدا لأمنها، أو ربما تواجه وضعا مشابها لحالة العراق بعد سقوط نظام صدام حسين؟

غليون: عندما نقارن ليبيا بالعراق، يتعين أولا التأكيد على أن ما حدث في العراق لم يكن نتيجة قيام الشعب بثورة أدت إلى سقوط النظام وتسلم الشعب زمام الأمور بيده وإعادة بناء نظامه السياسي، وإنما قامت دولة عظمى بتحطيم النظام المركزي... أجل استبدادي، لكن اسقاطه لم يكن بسبب سياسة العراق الداخلية ومن أجل إقامة ديمقراطية فيه، بل بسبب سياسته الخارجية.
ولذلك فُرض على الشعب العراقي حكومة تحت نظام أُطلق عليها صفة الفيدرالية، وهي في حقيقة الأمر حكومة ضعيفة غير قادرة على التأثير في السياسات الإقليمية النفطية وأن لا تشكل تهديدا لإسرائيل. ولذلك لا يمكن إجراء مقارنة بين ما حدث في العراق وما يحدث الآن في العالم العربي.

وفي ليبيا الأمر مختلف كليا، وليس هنالك سبب ليعود الليبيون إلى مرحلة الإنقسام بسبب اتساع البلد جغرافيا. بطبيعة الحال فإن ضعف تعداد السكان (5 ملايين نسمة) في مساحة جغرافية فسيحة سيشكل صعوبة في التواصل، ولكن في ظل التكنولوجيا الحديثة وبما تمتلكه ليبيا من ثروة هائلة وفي ظل عدد سكانها المحدود، فإن ذلك يمنحها فرصة نادرة في بناء ديمقراطية جديدة مدعومة ببنيات تحتية ومشاريع وشبكات اتصالات ومواصلات عبر سكك الحديد. ويمكنها أن تحقق ثورة اقتصادية حقيقية خلال سنوات قليلة تُخرج الشعب الليبي من مآسي الماضي وانسداد الآفاق والمطبّات التي أدخله فيها حكم القذافي بهدف السيطرة عليه وإخضاعه إلى الأبد.

أجرى الحوار: منصف السليمي
مراجعة: يوسف بوفيجلين
حقوق النشر: دويتشه فيله 2011

الدكتور برهان غليون أستاذ علم الإجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس، مفكر عربي معروف وله مؤلفات عديدة حول الدولة الحديثة.

قنطرة

حوار مع الباحث الجزائري رشيد عويسى:
"الحكام العرب لم يفهموا بعد أن زمن الايديولوجيات قد ولى"
"ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان" هذه المقولة تنطبق ربما على الشعب الليبي، الذي رغم الثروة التي وظفها النظام لخلق علاقة مستقرة معه، إلا أن جيل الفيسبوك يتوق إلى الحرية قبل الخبز أحيانا، كما يعتقد الباحث الجزائري في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة ماربورغ الألمانية رشيد عويسى.

أربعون عاما على تولي معمر القذافي مقاليد الحكم في ليبيا:
القذافي… عالم من التناقضات ورجل الأضواء والمفاجئات
لقد فاقَ معمر القذافي الجميع تقريباً فيما يتعلق بطول فترة حكمه، إذ يحكم الآن فترة أطول مما حكم كل الحكام الطغاة في القرن العشرين، وفترة أطول من كافة الحكام العرب الآخرين، ومن كل سياسي منتخب ديمقراطياً في أي مكان من عالمنا. رودولف شيميلّي يسلط الضوء على "ظاهرة القذافي".

مصر بعد سقوط نظام مبارك:
مصر ما بعد مبارك.... ولادة جديدة للعالم العربي
يرى الباحثان حسين آغا وروبرت مالي في هذه المقالة أن نزول الشعوب العربية إلى الشوارع ليس مجرد فعل اعتراض، بل هو كفاح لتقرير المصير، مؤكدين أن العالم العربي قد أفرغ لعقود من السياسة وأن اليوم هو يوم انتقام السياسة.