السودان: ثلاثون سنة من التكيّف مع البشير تكفي!

من دعامات استمرار الاستبداد: شعب متكيف مع الاستبداد. هذا التكييف هو قسري يأتي بعد الاستنزاف اليومي للشعوب من قِبل الأنظمة الديكتاتورية. وكبقية الشعوب العربية فإن الشعب السوداني استقر على الاستبداد وتكيّف مع الهدر الوجودي في الحياة اليومية تحت حكم البشير لمدة ثلاثين عاما. الناشطة هدى شقراني تعتبر أن الشعب السوداني خرج إلى الشارع آملا في إنهاء هذا التكيف معه.

By هدى شقراني

تحدث المفكر الفرنسي إيتيان دو لا بواسي عن "المواطن المستقر" قائلاً: "عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتلاءم مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسميه المواطن المستقر". بمعنى آخر المواطن المستقر هو المستقر على الظلم والقمع والاستبداد.

أنظمتنا العربية تهدر الفكر وتحجر على العقول وتخلق مواطنين مستقرين يقتصر نشاطهم الفكري على مستوى المعاش فقط متكيفين جدا مع الاستبداد والطغيان. وينعدم بذلك الاقتدار المعرفي والإنتاج الفكري وتتجلى لنا حالة عامة من الخصاء الفكري. وهنا يسهل الانقياد وراء الاستبداد السياسي والديني حينها.

إذا يمكن أن نقول أن المواطن المستقر هو مواطن مستقر فكريا. وعكس الاستقرار الفكري ليس الخلل العقلي. عكس الاستقرار هو الحركة وهنا أقصد طبعا الحركة الفكرية مقابل الاستقرار الفكري.

لكن حالة التكيف مع الاستبداد ليست أزلية، إذ أن تعرض الشعوب المستمر إلى الظلم والقهر والقمع والتفقير ينتج حالة ثورية شعبية عفوية ضد الوضع القائم قد يغيب عنها المتحزّب والمثقف. فالنخبة السودانية نفسها فوجئت بهذه المظاهرات العفوية العارمة.

عقود الاستنزاف اليومي للشعوب لا تستمر إلى ما لا نهاية. وتاريخيا كل حركات التحرر وكل الثورات نشأت في ظل التفقير والظلم. وهذا هو حال السودان اليوم وحال شعوب منطقتنا في العشرية الأخيرة.

ولأن شعوبنا دُجِّنت من قبل أنظمتنا فإننا نرى أن الأنظمة وشق كبير من الشعوب يسعيان جاهدين لقبر إرادة من أرادوا التغيير. من المؤسف جدا أن ننفي عن شعوب منطقتنا عفوية خروجها ضد أنظمتنا التي فقّرتنا وقمعتنا لعقود طويلة.

ومن ينفي هذه الحالة الثورية الطبيعية ويرى فيها مؤامرة خارجية هو في حقيقة الأمر يهين نفسه كإنسان، إذ أنه يقول صراحة: نعم أنا خاضع ومستكين لمن قهرني ويقهرني وأريد أن يواصل قهره أي وأنا جدُّ مستمتع بذلك. من يقرأ الوضع على أنه مؤامرة هو شخص متكيف جدا مع الاستبداد.

هذا التكييف القسري عملت على زرعه أنظمة المنطقة في كل فرد من أفراد مجتمعاتنا منذ السنوات الأولى للاستقلال في شتى دول المنطقة وللأسف نجحت في ذلك إلى حد كبير جدا.

استراتيجية التخويف من الحراك الثوري ضد الفساد والاستبداد: أمس وعد الرئيس السوداني عمر البشير بإجراء إصلاحات وتنفيذ مشاريع لتحسين أوضاع السودانيين. اليوم تحدث بلغة مختلفة محملا "دولا أجنبية" وبعض من وصفهم بـ"الخونة والعملاء والمرتزقة" بالوقوف وراء حركة الاحتجاجات في السودان.
استراتيجية التخويف من الحراك الثوري ضد الفساد والاستبداد: أمس وعد الرئيس السوداني عمر البشير بإجراء إصلاحات وتنفيذ مشاريع لتحسين أوضاع السودانيين. اليوم تحدث بلغة مختلفة محملا "دولا أجنبية" وبعض من وصفهم بـ"الخونة والعملاء والمرتزقة" بالوقوف وراء حركة الاحتجاجات في السودان.

وها نحن اليوم نرى نسبة كبيرة من الجماهير، التي ثارت بالأمس القريب، قد انساقت وراء ما تروج له الأنظمة التي لم تسقط والأنظمة التي أعادت إنتاج نفسها وانساقت حتى وراء عبث أمريكا بنا. فهذه الأطراف الثلاثة تتفق حول أن الخطر الأول الذي يهدد وحدة أوطاننا هو الارهاب.

وذلك طبعا للحفاظ على نفس الأنظمة وللقضاء على أي إمكانية للتغيير الجذري والنهوض بمنطقة أنهكتها عقود طويلة من الاستبداد. للأسف الشديد فإن شقا كبيرا من القوى "اليسارية التقدمية" قد التحق بهم، أي بالثورة المضادة.

اليسار في المنطقة وفِي مجمله تبين أنه يسار مستقر فكريا ومتكيف جدا مع أنظمة الاستبداد ولشدة رُهابه من الإسلام السياسي وقف ضد نفَس الشعوب على خلاف الحزب الشيوعي السوداني كما سأبيّن لاحقا. وخالَ اليسار أنه بسحق الإسلاميين لن يسحق هو. وفِي الحقيقة أي سحق للطيف الإسلامي يرافقه لزاما سحق للعلمانيين والليبراليين واليساريين وأقرب مثال لهذا الحالة المصرية، التي غُيّب فيها الكل وحضر فيها فقط العسكر بكل فاشيّته.

إقرأ أيضا:

الباحث خالد فهمي حول ثورات الربيع العربي: المارد خرج من القمقم

ما هي أسباب طول أمد السلطوية الفاشلة في بلاد العرب؟

الربيع العربي: الخلفية الطبقية للثورات العربية

وقد يصل بعض "اليساريين" إلى وصف الجماهير بالرجعية. وهذا الوصف بالتحديد استعمله فاضل الربيعي، الأكاديمي العراقي والشيوعي السابق. إذ قال حرفيا: "ثورات الربيع العربي كانت ثورات مزيفة قادتها جماهير رجعية. بخلاف ما هو شائع، الجماهير ليست دائما تقدمية."

كما أضاف قائلا: "هنالك أوهام عند اليساريين العرب، الذين أخطأوا في فهم طبيعة خدعة الربيع العربي واعتقدوا أن هذه الجماهير التي نزلت إلى الشوارع هي جماهير تقدمية. في الواقع ما قاد هذه الجماهير هو مجموعات منظمة من القوى الرجعية، التي انجذبت إليها جماعات ليبرالية ويسارية وديمقراطية."

وفي الواقع هذا هو لسان حال عدد كبير من اليساريين حين يتعلق الأمر بسوريا خاصة. وربما سنسمع نفس الهراء إذا ما تطورت الأمور أكثر في السودان فالبشير من أصدقاء الأسد.

وهنا يمكن أن نقول إن اليساري قد يكون مواطنا مستقرا أيضا، رغم الوعي المزعوم، إذ أنه نشأ في إطار أنظمة شمولية تجعل منه متكيفا مع الشمولية مصطفا إلى جانبها ومدافعا عن بقائها، معاديا لثورات الشعوب وناعتا إيّاها بالمؤامرة. والمثقف والفنان هما أمثلة أخرى للمواطنين المستقرين فكريا والمستقرين على الاستبداد.

التخويف من الثورة صار نهج الأنظمة لقبر إرادة الشعوب. انتهج النظام المغربي ذلك إزاء حراك الريف. وهي سياسية السيسي في مصر أيضا والتي يمكن أن نختصرها كما الآتي: الفقر أو الاٍرهاب أيها المواطن المصري. والجزائر الصامتة على ما يحصل فيها هو صمت الخائف من الثورة.

تخويف من حراك الجماهير نحو التغيير

واليوم، فإن نظام البشير سيتبع، على الأغلب، نفس السياسة لضرب هذه الانتفاضة الشعبية. وربما ينتهج النظام "الحل" السوري الدموي لسحق إرادة الشعب السوداني. البشير زار مؤخرا الأسد مباركا إياه سحق الثورة في سوريا. الاثنين نجحا في تدمير وتقسيم الوطن وهدر شعبيهما حفاظا على البقاء في السلطة. لا غرابة في هذا اللقاء روسي التنظيم.

لكن البشير عاد إلى السودان ليواجه هبّة جماهيرية كبيرة تنبؤ بثورة شعبية قد تطيح به. ذهب ليكسر عزلة نظام الأسد فعاد للسودان ليجد نفسه معزولا داخليا إلى جانب عزلته الإقليمية والدولية. فجماعة الإخوان المتحالفة معه تحاول القفز من السفينة والقفز على الأحداث. والجيش، الذي أتى من صلبه، نراه متوخٍ للحذر في التعامل مع الشارع.

الأسد في حربه بالوكالة جعل من الثورة مصطلحا مرادفا للإرهاب. لقد قدم أكبر خدمة للأنظمة العربية الفاشلة. فبعد إسقاط جدار الخوف من الأنظمة سنة 2011، بنى الأسد جدارا جديدا هو جدار الخوف من الارهاب.

نظام الأسد شوّه الثورة السورية ودفع بها نحو التسليح ليجهضها. لعب النظام السوري لعبة قذرة لقي من ورائها كل الدعم على أساس أنه مقاوم للإرهاب. وصارت الثورة مرادفة للإرهاب وتفتيت الأوطان. أضف إلى ذلك، دول الخليج التي ساهمت في تشويه واخفاق ثورات الشعوب أيضا إذ ليس من صالحها نجاح أي ثورة في المنطقة. وهذا ما نراه اليوم من قطر التي تقدم المساعدة لنظام البشير. ومن إعلام الجزيرة الذي يروج لـ"مشروع" المستنجد به زعيم حزب الأمة، الصادق المهدي.

إعادة إنتاج الخوف لدى شعوبنا لتستكين بذلك الأهواء الثورية في المنطقة هو ما تعمل عليه الأنظمة منذ قيام الثورة في سوريا. إعادة إحكام القبضة على نفَس وصوت الشعوب هو هدف حكامنا فهدفهم ليس خدمة الشعوب. لكن السودان اليوم ينتفض ضد هذه القبضة دون الخوف من الثورة رافضا المواصلة في التكيُّف مع نظام هدَر شعبه وامتهن كرامته مدّة ثلاثين سنة.

ما يجب تحقيقه في السودان هو تأسيس ائتلاف تقدمي كبير يسير بهذه الهبّة الجماهرية إلى الأمام. ائتلاف يقف بقوة أمام كل أطراف الثورة المضادة، النظام القديم والأصوليون الإسلاميين، اللذان عبثا بنا وبثوراتنا منذ قيام شعوبنا منذ ثمانية سنوات. ائتلاف يرسم خطة طويلة الأمد يضع فيها موارد السودان وثرواته في خدمة السودانيين.

 

"على كل القوى اليسارية في منطقتنا أن تقف مع الشعوب المقهورة"

وحين نتحدث عن ائتلاف مدني تقدمي كبير في السودان يجب التأكيد على أهمية دور الحزب الشيوعي السوداني في تحقيق ذلك. فهو من الأحزاب الرئيسية في المشهد السياسي السوداني لعقود طويلة. الحزب الشيوعي السوداني لم يلد من رحم الاتحاد السوفياتي فكان مستقلا عنه وناقدا له منذ التأسيس سنة 1946 على خلاف بقية الأحزاب الشيوعية في المنطقة.

وقد أكد كمال الجزولي، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني السابق، المساند لإرادة شعوب منطقتنا منذ 2011، على أن الحزب له صياغة متجددة لنظرية الثورة وأنه تميّز عن بقية الأحزاب الشيوعية في المنطقة. وقال أن أحزاب المنطقة لم تكن مهيأة ذاتيا ليكون لها دور فعال في الثورات. وتساءل: "كيف نتحدث عن الثورة ونحن لم نحسم موقفنا من الديمقراطية؟ فالقضية الأساسية في العالم العربي هي الديمقراطية وعلى كل حزب شيوعي في المنطقة تحديد موقفة من الديمقراطية."

وقد تفرّد الحزب الشيوعي السوداني على التأكيد على إرساء ديمقراطية تعددية ليبرالية. وقال الجزولي: "انطبع تاريخ الحزب وتطوره تماما بالنضال من أجل الحريات والحقوق، وهذا ما فهمناه من الديمقراطية." وأكد أن مشروع الحزب بعيد كل البعد عن أنظمة الحزب الشيوعي الواحد في الاتحاد السوفياتي والصين وإلى حد كبير في كوبا. الحزب الشيوعي السوداني لم يخذل الشعب السوداني سنة 1964، وسنة 1985 و خلال احتجاجات سنة 2012 فلن يخذله اليوم، هو الثابت على مبادئه. وقد أدلى الحزب بدعمه الكامل لهذا الانتفاض الشعبي، الذي قد يطيح بعمر البشير والتحم بالجماهير في الشارع مطالبا بأسقاط النظام.

كامل دول المنطقة تعاني من الهدر اليومي من قبل الأنظمة الحاكمة. هو هدر نفسي واجتماعي ومعرفي واقتصادي يصل حد الهدر الوجودي في الحياة اليومية آل بالشعوب إلى الخروج للشارع. على كل القوى اليسارية في منطقتنا أن تقف مع الشعوب وعليها أن تعيد النظر في مبادئها وأهدافها وتتحد فعليا على الأرض لا على المستوى الشعاراتي لتحقيق التغيير الذي لن يتحقق إلا في ظل الديمقراطية. إرساء مشروع موحد ديمقراطي لليسار ضرورة ملحة جدا.

وإذا ما نجح اليوم الشعب السوداني في تحقيق التغيير، فإن سياسة التخويف من الثورات ستفقد تأثيرها على شعوبنا وستتواصل السيرورة الثورية التي بدأت في تونس فكل محركات الثورة مازالت قائمة.

نحن لسنا استثناءً، نحن كما بقية شعوب العالم التي لم تتكيف مع الاستبداد وحققت تغييرا جذريا في السلطة والمجتمع.

 

أنهي هذا المقال بكلمات توجه بها جبران خليل جبران لمي زيادة:

 

"ولكن في قلب كل شتاء ربيع يختلج،

ووراء نقابِ كل ليلٍ صباحٌ يبتسم.

وها قد تحوّل قنوطي إلى شكل من الأمل."

 

نعم قدرنا أن نربّي الأمل كما قال محمود درويش.

 

هدى شقراني

حقوق النشر: قنطرة 2018