علماء الاجتماع العرب في دائرة الاتهام

يقول علماء الاجتماع في العالم العربي إن الحكومات تتعامل وعلى نحو متزايد مع مهنتهم بطريقة يشوبها الشك. حيث تقابل طلبات الحصول على البيانات والوصول إلى المحفوظات الوطنية بالرفض بشكل روتيني من قبل الوكالات الحكومية بذريعة حفظ الأمن القومي.

وكما هو الحال عليه منذ فترة طويلة، يتوجب على الأكاديميين في بعض الدول العربية الحصول على إذن حتى قبل طرح الأسئلة العامة. ويجب أن تتم الموافقة على الدراسات المسحية ومحتواها من قبل الدولة. لكن الباحثين يقولون إن طلبات القيام باستفتاء للرأي العام أو إجراء بحوث في المحفوظات تقابل بالرفض بشكل متزايد.

قال خالد فهمي، أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركية في القاهرة، والأستاذ الزائر في جامعة هارفارد، “إن عدد الطلبات المرفوضة مرتفع للغاية. في الواقع، إنهم لا يرفضون طلبك، بل يكتفون بعدم الموافقة. ولا يخبرونك أبداً بسبب عدم قبولك.”

يقول علماء الاجتماع إن هذه الثقافة تعني أن أبحاثهم محاطة بالصعوبات، الأمر الذي يجعل نتائجهم أقل دقة وأكثر افتراضية. وغالباً ما يتمكن رفض الحكومة من وقف المشروع البحثي من البداية بشكل تام – الأمر الذي قد يعبر عن نية الحكومة في حقيقة الأمر.

يختلف الوضع في أرجاء المنطقة مع وجود بعض الحكومات مثل مصر التي تحتل الموقع الأكثر صرامة من الطيف، بينما تكون حكومات دول أخرى مثل لبنان أقل جموداً بقليل إذا ما امتلك الباحث العلاقات اللازمة. لكن، وفي كل الدول العربية تقريباً، يواجه الباحثون مهمة شاقة في سبيل الحصول على موافقة الحكومات على إطلاق البيانات، بحسب ساري حنفي، رئيس قسم الاجتماع والأنثروبولوجيا في الجامعة الأميركية في بيروت، بسبب تخوف الحكومات من النوايا السياسية للأكاديميين.

قال “إنهم لا يرغبون في تمكين الباحثين من التدخل.”

يتحايل العديد من الباحثين على النظام، مخاطرين بعدم تكليف أنفسهم عناء الحصول على إذن الدولة لتنفيذ أبحاثهم. لكن بعض الباحثين الذين تمت مقابلتهم لإعداد هذا المقال قالوا إنهم يخشون على حياتهم إذا ما قاموا بذلك الآن. يقول خبراء آخرون إن الجوهر الحقيقي للمشكلة لا يكمن في الحكومات النافذة للغاية، بل في عدم وضوح القواعد.

قدم فهمي، الذي يعيش حالياً في الولايات المتحدة، مخطوطاً لكتاب عمل عليه على مدى العقد الماضي، حول التاريخ الاجتماعي لمصر على مدى الـ 200 عام الماضية.

وبشكل أكثر تحديداً، كان فهمي يبحث في التقاطعات بين النظام القانوني في مصر ومؤسساتها الطبية، بما في ذلك الحوادث التي طالبت فيها جماهير العامة إجراء تشريح لأحد المتوفين المحبوبين لأنهم قد شكوا في وجود مؤامرة من قبل السلطات.

يقول فهمي إن بحوثاً مثل البحث الذي أجراه، والتي تمس مواضيع حساسة سياسياً واجتماعياً، غالباً ما تتطلب الحصول على موافقة الحكومة.

لكن من وجهة نظر السلطات، يبدو أن النوع الأكثر إثارة للقلق من البحوث الاجتماعية يتمثل في ذهاب الأكاديميين إلى الشارع بهدف إجراء مسح للسكان المحليين.

في مصر، يتطلب إجراء مثل هذا البحث حصول الباحث على ترخيص مسبق من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (CAPMAS) – وعلى الرغم من التفاف العديد منهم حول ذلك ومخاطرتهم بإجراء مسوحات غير قانونية، بحسب فهمي.

قال موضحاً “إن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء منظمة حكومية تأسست في منتصف ستينيات القرن الماضي، وكما يمكنك تخمين ذلك من اسمها، فإن له دلالات عسكرية ولا يزال يترأسها رجل عسكري.”

بالإضافة إلى إقرار ورفض طلبات إجراء البحوث، تقوم الوكالة بجمع الإحصاءات الوطنية وإجراء التعداد السكاني. قال فهمي “في هذا الصدد، إنها تقوم بعمل جيد. لكنها تقوم أيضاً بمراقبة الأبحاث لأنها قائمة على أساس أن البيانات تعود للجيش.”

يقودنا هذا الافتراض إلى انقطاع في التفكير بين الحكومة والأكاديميين.

قال “لا تنظر الوكالة إلى البيانات على أنها مواد خام بإمكانها توليد المعلومات بهدف إنتاج المعرفة”، وأضاف “إنهم ينظرون إلى البيانات بوصفها مادة ثمينة ومحدودة يجب حمايتها من حيث كيفية جمعها ونشرها في حالة تقويض الاستقرار القومي.”

يكمن الخوف في صميم تفكير الحكومة من أن أية معلومات، مهما كانت اعتيادية، سواء في المجال العام أو الأكاديمي، بالإمكان استخدامها ضد مصر من قبل أعدائها، بحسب ريم سعد، أحد علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية في الجامعة الأميركية في القاهرة.

بعبارة أخرى، ترى الحكومة بأن لدى علماء الاجتماع والمؤرخين القدرة على الانخراط في التجسس بشكل غير متعمد.

لا يعتبر علماء الاجتماع المهنيين الوحيدين الذين يعملون وسط ما يسميه العديد من الأكاديميين بالجو المرتاب في مصر. قالت سعد “إنهم يستهدفون فحسب أي شخص قد يطعن في الرواية الرسمية، كالمصورين الفوتوغرافيين والصحفيين على سبيل المثال. إنها رغبة في احتكار المعلومات والرواية الوطنية. الأمر يتعلق بحرمان الناس من الحصول على المعلومات التي من شأنها أن تمكنهم من مساءلة ومحاسبة الحكومة.”

باختصار، ليس هناك أحدٌ مستثنى في الواقع. قالت ستناي شامي، المديرة العامة للمجلس العربي للعلوم الاجتماعية، “عندما يتعلق الأمر بالبحث، فإن من الصعب التفكير في موضوع لن يثير قلق أحدهم سواء أكان ذلك يتعلق بالعلوم البيئية، أو التخطيط الحضري، أو اللاجئين، أو أياً كان. يمكن أن تكون أية قضية تقريباً في ظل هذا الجو الهش سبباً لقلق إحدى الدوائر الحكومية.”

وأضافت “هنالك قلق خاص حول العلوم الاجتماعية لأنها تكتب بلغة أكثر يُسراً من لغة العلماء.”

في لبنان، يمتلك المكتب المركزي للإحصاء “معلومات جيدة حول نتائج الدراسات المسحية لكنه لا يمنح الباحثين أية إمكانية للوصول إلى البيانات بحسب الموقع”، بحسب حنفي.

أمضى حنفي خمسة أعوام في دراسة التحديات التي تواجه علماء الاجتماع في العالم العربي من خلال إجراء مقابلات مع أكاديميين من فلسطين والأردن ومصر والمغرب. يقول حنفي إنه من الصعب الحصول على بيانات موثوقة.

على سبيل المثال، يشير حنفي إلى أن “وزارة الداخلية المغربية منعت في آب/ أغسطس 2016 إجراء أي استطلاع للرأي العام باستثناء ما يخص أبحاث السوق.”

في لبنان، ليس من المستحيل الحصول على الإحصائيات الحكومية، بحسب بول طبر، أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية الأميركية، لكنه أضاف “الأمر سيتسبب في بعض المتاعب. يمكن للمعارف والعلاقات الشخصية قطع شوطاً طويلاً لتحقيق هدفك.”

فمن خلال كلمة دقيقة توجه للشخص الصحيح، سيتمكن الباحثون في نهاية المطاف من الحصول على النتائج التي يحتاجون إليها.

في بعض الأحيان تكون البيانات غير متوفرة فحسب. على سبيل المثال، لم يجرِ لبنان تعداداً للسكان منذ أن كان مستعمرة فرنسية. قال طبر “هنالك أسباب سياسية، لأنك إذا ما قمت بإجراء تعداد للسكان فإنك ستعرف أعداد نفوس كل طائفة دينية، الأمر الذي سيؤدي إلى قراءة مختلفة لحصص النفوذ في البرلمان.”

يعتقد بعض الأكاديميين في مصر أن للسلطات المصرية يد في قتل وتعذيب الباحث الإيطالي جوليو ريغيني ويقولون بإن موته كانت بمثابة إيذان ببدء حقبة جديدة. كما يعتقد بعض الباحثين المصريين الآن بأنهم قد يعرضون حياتهم للخطر إذا ما نفذوا عملهم من دون الحصول على موافقة الحكومة. كان ريغيني يبحث في دور النقابات العمالية في مصر، وهو موضوع حساس من الناحية السياسية. وقد أظهر مقتله أن الحكومة كانت مستعدة لأن تمضي إلى ما يتجاوز الترهيب والسجن بهدف قمعالحرية الأكاديمية، بحسب بعض الأكاديميين.

يقول فهمي إن الحكومة تخلق جواً من الشك حول الباحثين وتتعامل معهم كما لو كانوا أقل بدرجة واحدة فقط من كونهم جواسيس.

بينما تعتقد شامي بأن أحد أهم القضايا التي تحتاج للمعالجة تتمثل في زيادة الوعي وتوضيح القواعد التي تنظم أبحاث العلوم الاجتماعية في المنطقة مشيرة إلى أنها لا تجادل بهدف منح الباحثين تفويضاً مطلقاً.

قالت “أنا لا أعتقد بأن هناك أي دولة في العالم لا تسعى للسيطرة على المعلومات. عليهم أن يقوموا بما يتعين عليهم القيام به. أعتقد أن المشكلة تكمن في غياب وجود مبادئ توجيهية واضحة بشأن ما يمكن للباحثين القيام به وما لا يمكنهم فعله.”

وقد كان ذلك بالفعل تعبيراً عن تجربة حنفي، الباحث في الجامعة الأميركية في بيروت، مع وكالة الإحصاءات المصرية. قال “تقدمت بطلب للحصول على ترخيص لإجراء بحوث حول المجتمع الفلسطيني في مصر عام 1995 ولم أحصل على الرد أبداً.”

على مدى عقود، خلق هذا الصمت والعديد من حالات الرفض الصريح فراغاً في البيانات عن السكان الذين يعيشون في 22 دولة عربية.

قال فهمي “هذا الأمر يضر بمصر من عدة نواحي، لأنه يقوض عملية إنتاج المعرفة. مصر بلد فقير، لكنها غنية بمجتمعها. عندما تقتل روح البحث، فإنك تقوض أحد أهم المدخرات التي تمتلكها مصر.”

قالت شامي “إنها خسارة كبيرة أن تكون المنطقة مدروسة بشكل أقل. هذا يعني أن البحث الذي يتم إنتاجه لن يكون محكماً بالشكل الذي كان سيكون عليه لو كان الواقع مختلفاً.”

 

http://www.al-fanarmedia.org/ar/2016/11/%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%A1-…