واقع الأكراد يكاد يتلاشى وتجربتهم في سورية تحفّز المراجعات

على مقربة من الهزيمة التي مني بها مشروع الاستفتاء على الاستقلال، الذي تبناه وروّج له وسعى إليه «الحزب الديموقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود البارزاني، والذي أفضى إلى خسارة كركوك والمناطق المتنازع عليها وأدّى إلى تدخل بغداد وأنقرة وطهران في شكل حاد في شؤون الإقليم ومستقبله السياسي والاقتصادي، يحدث خلف الساحل الغربيّ لنهر دجلة تقهقر مقابل حيث يتفرّد «حزب الاتحاد الديموقراطي»، ربيب المدرسة الأوجلانيّة، بحكم أكراد سورية، وهو الذي يعج بمزيج من الثقة المفرطة بالنفس والكثير من المفاهيم الطازجة الخارجة من متون كتابات أوجلان حول النسويّة والنظام الإيكولوجي وأخوّة الشعوب. وفيما أراد الحزب عبر آلته السياسيَة والإعلاميّة الترويج لإقليم كردي- عربي فسيح في شمال سوريّة، يمتد من منقار البطّة مروراً بكوباني فمنبج ثم عفرين وصولاً إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسّط، حلّت كارثة التفاهمات التركيّة- الروسيّة التي دفعت بعفرين إلى مهاوي الاحتلال التركي الذي باشر بدوره عمليات التغيير الديموغرافي، والتي يمكن وصفها بأنها التغييرات الأولى للتركيبة السكانيّة طيلة تاريخ منطقة كرد داغ– عفرين منذ قرون. وإلى التفاهمات التركيّة الروسيّة حصل ما هو متوّقع في مسار التفاوض التركي- الأميركي، إذ أفضت مباحثات وزيري خارجيّة البلدين أوغلو وبومبيو إلى وضع خارطة طريق في ما خصّ مصير منبج، وإن كانت خارطة الطريق هذه مغلّفة بالغموض إلّا أن البادي منها هو إخراج «وحدات حماية الشعب» من هذه المنطقة التي تمثّل آخر الكيلومترات التي يتحكم بها «حزب الاتحاد الديموقراطي» غربي الفرات.


وأيضاً، في القامشلي، يزور وفد ممّن يطلقون على أنفسهم «معارضة الداخل» بعض الأحزاب الكرديّة في عملية قد يصح تسميتها بحملة تبشير للعودة إلى «جنّة» النظام. يحصل هذا بعد الحوار الذي أجراه الرئيس السوريّ مع التلفزيون الروسيّ وحدّد من خلاله سياساته تجاه منطقة الجزيرة السوريّة، وأن استعادة سيطرة الدولة سيتم إما بالتفاوض أو بالحرب، الأمر الذي دفع بعض السياسيين الأكراد إلى التهليل لفكرة التفاوض الملتبسة!

قد يسلك أكراد سوريّة درب «التفاوض»، والأمر هنا يدخل في باب القلق المتواصل والخشية من استمرار التفاهمات التركية- الأميركيّة والتي قد تؤدّي إلى مزيد من التآكل في المناطق التي تتبع الإدارة الذاتية، بل ربما إلى نزع السلاح الكرديّ لصالح سلاحٍ مستحدث تصنعه تركيا والعشائر العربية وقوات التحالف الدولي، ولعلّ هذا الأمر محتمل عند النظر إلى براغماتيّة الإدارة الأميركيّة التي تفاضل بين دولة إقليميّة عملاقة كتركيا وبين حلفائها المحليين الأكراد، إذ لا شكّ أن كفّة تركيا الوازنة أبقى وأثقل من أن ينافسها المسلّحون الأكراد، وحيث لا شفاعة لمساهمة الأكراد الجليلة في تحرير الرقة أو المضيّ في حملة تمشيط ريف دير الزور من فلول تنظيم داعش.

لا يعني التفاوض الكردي المحتمل مع النظام السوريّ التفاوضَ الذي يجب أن يكون عليه، إذ يكفي أن نفسّر هذه المفردة على نحو مختلف. فهو تفاوض بلون الإذعان، تفاوض يعيد الدولة الأمنيّة إلى القامشلي ويدخل الأكراد في صلب سياسات النظام السابقة على الأزمة السوريّة، وقد يتحوّل مكسب الأكراد من الحكم الذاتي إلى مجرّد اعتراف شفهي بالوجود، وربّما بثّ أغانٍ كرديّة على محطّة التلفزة السوريّة واستعراضٍ ركيك للفولكلور الكردي إلى جوار إيجاد معاهد لتعلّم اللغة الكرديّة.

تبدو خيارات الأكراد ضيّقة للغاية، في ظل النزيف الذي أصاب المعارضة الموشكة على الاندثار وعدم قدرتها على استيعاب التطلّعات الكردية، وفي ظل عودة النظام بكامل عدته الأمنية ولياقته العنفيّة، وفي ظل الجوار التركيّ الذي يراقب الأكراد وتطلّعاتهم مهما علت أو انخفضت تلك التطلّعات، وفوق ذاك رغبة تركيا في توسيع حقلها الأمني داخل سورية على حساب الأكراد وما يحمله الأمر من تكرار صيغة احتلال عفرين الذي غدا كابوس كل الأكراد.

بات الأكراد يعون حقيقة الأسوأ الذي ينتظرهم، والذي لا فكاك منه ولن تجدي معه النصائح من قبيل وحدة الصفّ الكردي أو التلازم مع المعارضة الديموقراطية السوريّة، فلا هذا ممكن ولا ذاك متاح. إلى ذلك لم يعد ينفع الحديث في هذه الغضون عن خطاب قوميّ كردي جديد أقل شعبويّة وشعاراتيّة، يأخذ بالحسبان إمكانات أكراد سورية المتواضعة ويحفظ وجودهم على أقل تقدير.

تشكّل العالم الكردي الجديد في سوريّة في لحظة ضعف وهوان الدولة المركزيّة، كحال معظم العوالم الكردية المقابلة التي تشكّلت في ظروف مشابهة، كمهاباد بكردستان الإيرانيّة أو كردستان العراق بُعيد حرب الخليج الثانية. وعليه قد تتحوّل تجربة أكراد سوريّة طيلة سنوات الأزمة إلى ذكرى قوميّة سعيدة بعض الشيء، إلّا أن من الأفضل أن تتحوّل هذه التجربة إلى درس ومقدّمة للمراجعات بدل أن تعلّق التجربة كذكرى على حائط التجارب الكردية الأخرى، وما أكثرها.

* كاتب كردي سوري