الانغلاق لا يصنع مستقبلاً

By شفيق ناظم الغبرا

بينما تسيطر الحرب على عوالم العرب المختلفة، فتُقصف حلب بصورة وحشية وتثور بغداد على أوضاعها وتترنح مصر بين النظام القديم والبحث عن الجديد وتتساءل دول عربية كبيرة وصغيرة عن المستقبل وخططه، لا يزال النظام العربي منهمكاً بالتعتيم والرقابة والخوف من النقد والبحث عن الإطراء. وفي غمرة الخوف من التعبير المفتوح، تزداد الكراهية في الإقليم. فعوضاً عن السماح بالتنفيس نجد الواقع العربي يزداد احتقاناً، وهذا تأكيد على أن جزءاً هو الأكبر من النظام العربي فقد القدرة على السماح ببعض التعبير في وصف أوضاع تزداد صعوبة، لكن هذا الضيق بحد ذاته يتحول انغلاقاً، وهو حتماً لا يصنع مستقبلاً.

 

الملاحقة القانونية والأمنية في مجال الكتابة والتعبير كإيقاف محطة لأنها من توجه مناهض، أو منع عدد من الأفراد من الكتابة في هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك، او خلق جيوش من السجناء السياسيين وسجناء الرأي أو ملاحقة شاب لكتابة جملة في «تويتر» لن يحل مشكلة الحقيقة، بل سيدفع إلى مزيد من التعقيدات في الموقف.

 

مهما فعلنا ستبقى الحقيقة بصفتها مستقلة عن عواطفنا وأفعالنا وسيبقى السعي إلى التعبير عن هذه الحقيقة أمام الدولة والنفوذ والقوة محركاً دائماً لقضية الحريات والتغير السلمي على رغم سواد الحرب. في الإقليم ان المجتمع العقلاني والمنفتح هو المجتمع الذي يناقش حقيقته وصورته ما يسمح له بتصحيح تحوّلاته وتقويم خطواته. هذا سرّ التجديد في المجتمعات الأكثر تقدماً. إن كان للإعلام المفتوح والحريات من دور فهو مرتبط بتسليط الضوء على الحقيقة. وسجن الحقيقة لا يغيّر حقيقة يؤمن بها قطاع من الناس.

 

الدولة هي أقوى اللاعبين نسبة إلى أدوات العنف في الجغرافيا العربية، لأنها تمتلك الاقتصاد والأرض والقدرات والأمن والجيوش والسلطة والقوة. لكن قوة الدولة في البلدان العربية تحولت إلى مصدر ضعفها، وذلك لأنها أصيبت بحال وهمية تجاه أفعالها والأوضاع التي تحيط بها. إن محدودية النقد الموجه إلى الدولة العربية منذ زمن بعيد إلى يومنا هذا، بسبب القمع والتهديد به، دفعتها إلى الاعتقاد بأنها تعيش في عالم مهيأ لها، وهذا رفع من درجة التناقض الواضح بين تصوراتها عن نفسها ومجتمعها وبين قساوة وصعوبة الواقع.

 

 

في معظم دول العالم تستمع الدولة إلى نقادها وتخضع للرقابة، أما في العالم العربي فالدولة فوق الجميع، لا تسأل ولا يشكك في سياساتها وإعلاناتها وإستراتيجياتها ووعودها. وعندما أعلن صدام حسين في العام 1980، بل وقبل ذلك عندما كان نائباً للرئيس، أنه سيغير وجه العراق، كان ينتظر من كل العراقيين والعرب أن يسيروا خلفه. وانتهى إعلانه، مثل إعلانات كثيرين من القادة السابقين في الإقليم (أنور السادات وحسني مبارك وحافظ الأسد ومعمر القذافي)، إلى مآزق وكوارث. بل حتى إعلان شاه إيران تحولات كبرى في السبعينات انتهت بالثورة في العام 1979. السبب في الضياع العربي لا يزال غياب الصراحة والوضوح والشفافية والمساءلة والرقابة على الدولة وقراراتها وسلوكاتها، فهي في يوم تقوم بأفضل الأعمال وفي يوم آخر تصنع أكبر الكوارث. حتى اللحظة هذه هي مسيرة الإقليم بين الصعود والهبوط. والنظام العربي في شكله الراهن وبطريقته الراهنة المفرغة من أي إصلاح سياسي واجتماعي سيصطدم بحائط محكم.

 

 

في الثقافة العربية الراهنة لا يجوز التحدث عن الأقوى (السلطة)، بل يجب أن تتحدث الناس كما يحلو لها عن الأضعف. في هذه الحال، يصبح التحدث عن الضعفاء والأعداء الخارجيين والبعيدين هو أفضل تعريف للحرية وفق الكثير من وسائل الإعلام العربية. نقد الضعفاء أكانوا أفراداً أم قبائل أم طوائف أو أحزاباً وحركات أو مجتمعاً مدنياً أو فئات حقوقية مشجع في الفضاء العربي طالما أنه لا يصل إلى السلطة السياسية. لا صدقية لإعلام لا يوجه نقداً إلى الأقوياء ولا يتعامل مع الضعفاء بإنصاف. هذا جوهر الإعلام المفتوح الذي يحترم نفسه و مشاهديه.

 

قبل عامين، أوقف برنامج باسم يوسف المتميز، لكن السلطات الرافضة لإسلوبه لم تجد طريقة لمواجهة البرنامج ببرنامج أفضل منه، فذهب السياسيون والرسميون وأصحاب التأثير إلى المنع. وهنا نسأل السؤال: بعد منع هذا البرنامج القيم بأكثر من عامين، هل تحسن وضع مصر وهل أصبحت صورتها أفضل حالاً؟ وهذا يطرح سؤالاً: هل الوضع السيء نتاج الإعلام والناقدين أم أنه نتاج الواقع السلبي الذي يطفو على السطح كجثة هامدة؟ إن سوء الصورة نتاج الواقع، لهذا يجب تغيير الأوضاع لتحسين الصورة عوضاً عن تمزيق الصورة؟

 

 

يصعب إخفاء الحقيقة في زمن سقوط الجدران بين المجتمعات. لا توجد حقيقة لا يمكن الوصول إليها في عصر آسانج و «ويكيليكس» الذي لا يشبه أي عصر قبله. من أراد مشاهدة «الجزيرة» أو «العربية» على مدار الساعة أو «الميادين» سيراها في كل وقت وكيفما يريد، وما الحرب ضد هذه الوسيلة أو تلك إلا خوض في مسائل تنتمي إلى الزمن السابق ولا علاقة لها بخصوصيات هذا الزمن.

 

 

نحن أحوج ما نكون إلى أكثر من رأي حول كل أمر. لهذا فإن فرض التعتيم على الأراء قد يموّه الأوضاع بعض الوقت حول بعض الأبعاد، لكنه سيكون صادماً للناس عندما يكتشفون حقائق مغايرة، وحينها ستسقط الثقة بالكامل. وهذا ليس جديداً في الواقع العربي. يكفي أن نستحضر تجربة حرب 1967. بلا حرية تنتقد القوة قبل الضعف وتنتقد الذي يتحكم اليوم ويسيطر عوضاً عن نقد من ماتوا وحكموا قبل عقود، سنبقى ندور في حلقة مفرغة. وبلا حرية سنشهد مزيداً من التفتت وذلك بسبب العنف الناتج من تحديد الحريات والحقوق.

 

الحرية قيمة بحد ذاتها في كل مجال من مجالات التعبير، أكان ذلك عبر الكتابة والفن والمسرح، أم عبر الأدب واللغة. الحرية أصل، ومن لم ينتبه حتى الآن إلى أن ما وقع في العالم العربي في السنوات القليلة الماضية من ثورات وعنف وفوضى مرتبط أساساً بغياب الحرية في جانب وبغياب العدالة في جانب آخر وبحال الدولة غير المساءلة في جانب ثالث، فهو حتماً ينتظر مزيداً من المفاجآت. الحقيقة في قاع المجتمع العربي الشديد التعقيد والتحول ليست الحقيقة نفسها التي يراها صناع القرار في الأعلى. نعيش تناقضاً كبيراً أكبر من الإقليم، وهو يتطلب استنهاضاً للحريات ولمكانة الحقوق بلا عقوبات وملاحقات.