الإخوان المسلمون في مصر وغريزة البقاء

في ضوء الانتقادات التي وجهت للإخوان المسلمين بسبب عدم انضمامهم إلى المتظاهرين في "ميدان التحرير" عشية اندلاع المواجهات الأخيرة مع قوات الأمن يرى الأكاديمي المصري في جامعة دورهام خليل العناني أن هذا القرار قد حكمته "غريزة البقاء" التي تبرز عند المنعطفات التاريخية للجماعة.



كثيرون وجهّوا اللوم لجماعة "الإخوان المسلمين" بسبب عدم انضمامها إلى المتظاهرين في "ميدان التحرير" عشية اندلاع المواجهات مع قوات الأمن قبل أسبوعين. ولعلها إحدى المرات القليلة التي واجهت فيها الجماعة "العجوز" موقفاً بهذه الحدة والتعقيد، ما وضعها تحت ضغط الشارع من جهة، وحساباتها السياسية المعقدة من جهة أخرى. وقبل تحليل قرار الجماعة بعدم النزول إلى الشارع بعد مناجاة الكثيرين لها، تجدر الإشارة إلى حقيقة مفادها أن أولئك الذين يوجهون اللوم لجماعة "الإخوان" بعدم النزول، هم أنفسهم الذين لاموها بسبب نزولها في التظاهرة المليونية التي دعتها إليها الجماعة مع بقية التيارات الإسلامية يوم الجمعة 18 تشرين الثاني (نوفمبر)، أي قبل يومين فقط من اندلاع تلك الأحداث الدامية. أي أنهم يلقون اللوم على الجماعة في جميع الأحوال، وذلك من دون أن يوجهّوا اللوم إلى بقية القوى السياسية التي اتخذت قراراً مشابهاً لقرار الجماعة بعدم النزول.
أما في ما يختص بقرار"الإخوان" عدم النزول إلى الشارع والنكوص عن دعم متظاهري "التحرير"، فيمكن فهمه في إطار أمرين أساسيين: أولهما وضعه في الإطار الأوسع للأحداث التي سبقته، وثانيهما أننا نتعاطى مع جماعة سياسية محضة تأخذ قراراتها وفق قاعدة المكاسب والخسائر وليس بشكل عاطفي على عكس ما قد يتصور البعض، وهو أمر لا يُعيب الجماعة في شيء.


حسابات سياسية معقدة

الصورة د ب ا
الانتخابات المصرية وتحديات الانتقال الديموقراطي

​​

في ما يخص خلفية القرار، يمكن القول بأن ثمة قدراً عالياً من الضبابية وعدم اليقين غلفا تطورات الأحداث والاشتباكات التي وقعت بين قوات الأمن ومتظاهري "التحرير". ولم تكن لدى الكثيرين صورة واضحة حول كيفية اندلاع هذه الأحداث وتطورها بشكل مفاجئ وهو ما فهمه "الإخوان" (وربما غيرهم) كما لو كان محاولة مقصودة لتوريطهم في مواجهة مع المجلس العسكري. ولعل ذلك ما يفسر حديث "الإخوان" المتكرر في بياناتهم وتصريحاتهم عن وجود مؤامرة للزج بهم في هذه المواجهة. من جهة ثانية، كانت هناك حالة متصاعدة من الاستقطاب الحاد في العلاقة بين "الإخوان" والإسلاميين من جهة، والمجلس العسكري ومعه بعض القوى الليبرالية من جهة أخرى، وذلك بعد رفض الإسلاميين تمرير وثيقة "المبادئ فوق الدستورية» التي باتت تُعرف إعلامياً بوثيقة "السلمي". وهو ما يعني أن أي قرار بالنزول سوف يزيد من حدة هذا الاستقطاب وربما يؤدي إلى مواجهة غير مأمونة العواقب ليس فقط مع قوات الشرطة وإنما أيضاً مع المجلس العسكري.

من جهة ثالثة، كانت هناك، ولا تزال، حالة من الانقسام والتربص بين"الإخوان" وغيرهم من القوى الليبرالية بسبب وثيقة "السلمي"، ما يعني أن نزول "الإخوان" الى الميدان سوف يُكسبه لوناً إسلامياً ما سوف يزيد من حدة هذا الانقسام الذي سوف يتجاوز السياسي كي يضرب كل ما هو مجتمعي وربما عائلي. ومن جهة رابعة، فربما فهم "الإخوان" أن نزولهم إلى "ميدان التحرير" قد يُفسرّ على أنه محاولة لاستعراض القوة والمزايدة على المجلس العسكري ما قد يبرر قمعهم وتكرار "السيناريو الجزائري" فيتم إلغاء الانتخابات وتعطيل المسار الديموقراطي برّمته. ومن جهة أخيرة، وهي الأهم، فإن أي قرار بالنزول الى الشارع، ربما بدا لجماعة "الإخوان" كما لو كان بمثابة "انتحار ذاتي"، ليس فقط لأنه قد يعني الدخول في مواجهة هي الأولى من نوعها مع الدولة المصرية منذ عام 1954، وإنما أيضاً قد يؤدي إلى خسارة كل المكاسب الكبيرة التي حققتها الجماعة منذ ثورة 25 يناير وحتى الآن.


وربما يقول البعض إن مصر في حالة ثورة ما يعني استبعاد تكرار سيناريو 1954، وهذا صحيح، بيد أن عملية التفتيت وامتصاص الزخم الثوري والاستنزاف السياسي التي جرت مع القوى السياسية طيلة الشهور الماضية (تماماً مثلما فعل عبد الناصر حين حظر الأحزاب في كانون الثاني /يناير 1953 وبعدها بعام تم حظر الجماعة في كانون الاول /ديسمبر 1954) قد يجعل أي قرار لـ "الإخوان" بالنزول الى الشارع من دون دعم شعبي وتحت مظلة سياسية واسعة مخاطرة كبيرة، وقد يؤدي في أقل الأحوال إلى حظر حزب "الحرية والعدالة" والزج بالعشرات من أعضاء الجماعة في السجون. وهنا نأتي إلى كيفية اتخاذ "الإخوان" قرارهم بعدم النزول والذي يمكن فهمه وتحليله من خلال معادلة المكسب والخسارة في كلا الحالين (أي النزول أو عدمه). وهنا يجب التعامل مع جماعة "الإخوان" ليس باعتبارها جماعة دينية محضة (هنا لا يمكن مقارنة الجماعة بالتيار السلفي الذي اتخذ قراراً بالنزول ليس فقط لأنه لا يتمتع ببنية تنظيمية يمكن ضربها أو حظرها وإنما أيضاً كونه لا يتمتع بنفس ثقل وتأثير "الإخوان") وإنما باعتبارها حركة اجتماعية وسياسية لديها حسابات دقيقة ومعقدة تحكم عملية صناعة القرار داخلها.

قرار النزول إلى الشارع

الصورة د ب ا
الإخوان المسلمون بين حسابات الشارع والعسكر

​​

ونبدأ بقرار النزول، فإذا اتخذ "الإخوان" قراراً بالنزول الى الشارع، فإن المكاسب قد تتمثل في: أولاً إرضاء المتظاهرين والمعتصمين في "التحرير" ودعمهم نفسياً ومعنوياً. ثانياً، تأكيد الطابع الجماهيري (وليس النخبوي) لجماعة "الإخوان" باعتبارها جماعة الشعب the group of the people التي تتلاحم معه وتسانده في جميع الأحوال وليست منفصلة عنه مثل بقية القوى السياسية.


أما في ما يتعلق بالخسائر المحتملة من قرار النزول فقد تتمثل في ما يلي: أولاً الدخول في مواجهة حتمية مع قوات الشرطة (وهنا لا نعرف إذا كانت الداخلية أم الشرطة العسكرية). وحتمية المواجهة هنا قد لا تأتي من رغبة "الإخوان" في ممارسة العنف بقدر ما ستكون رداً على استفزازات كلا الطرفين سواء من جانب المتظاهرين الغاضبين أو الرد العنيف من الشرطة على احتجاجاتهم. وهنا سوف يقع "الإخوان" في ورطة لا مخرج منها، فهم إن لم يدافعوا عن المتظاهرين مثلما فعلوا من قبل في شهر شباط (فبراير) الماضي في ما بات يُعرف بـ "موقعة الجمل" فسوف يُنعتون بالجبن والخذلان، أما إذا اشتبكوا مع قوات الأمن فسوف يُتهمون بممارسة العنف وسيتم استحضار كافة الذكريات عن "عنف" الجماعة الذي ارتكبته في أربعينات القرن الماضي، وهو ما قد يستخدمه الليبراليون والعلمانيون كسلاح ضد الجماعة. ثانياً، إعطاء العسكر مبرراً لإلغاء الانتخابات بسبب عدم استقرار الأوضاع الأمنية ما يعني إطالة المرحلة الانتقالية وتأخير تسليم السلطة إلى هيئة مدنية منتخبة. ثالثاً: قطع "شعرة معاوية" مع المجلس العسكري وتكرار خطأ 1954 الذي دفعت الجماعة ثمناً باهظاً له طيلة العقود الستة الماضية.


أما في ما يخص قرار عدم النزول فإن مكاسبه من وجهة نظر الجماعة تتمثل في ما يلي: أولاً، تجنب المواجهة الحتمية مع الشرطة والمجلس العسكري. ثانياً، عدم توفير أي ذريعة لتأجيل الانتخابات. ثالثاً، تفويت الفرصة على المجلس العسكري لإبطاء تسليم السلطة إلى المدنيين. رابعاً، عدم زيادة الانقسام مع النخبة السياسية وتجنب دفعهم ثمن أخطاء العسكر من دون غيرهم. خامساً، تجنب سفك مزيد من الدماء في ظل احتمالات خروج الأمر عن السيطرة بخاصة من شباب الجماعة الساخطين.

أما خسائر عدم النزول فتتمثل في ما يلي: أولاً، تشويه صورة "الإخوان" إعلامياً وشعبياً بسبب تخاذلهم عن الانتصار للمتظاهرين والمعتصمين في "ميدان التحرير". ثانياً، احتمالات تراجع التأييد الشعبي لمرشحي "الإخوان" في الانتخابات. ثالثاً، حدوث بعض التذمر والتوتر داخل الجماعة بخاصة مع بعض قيادات حزب "الحرية والعدالة" الذين تذمروا من قرار الجماعة وكذلك بعض الشباب الذي خالفوا القرار ونزلوا إلى الميدان بصفة فردية.

في ظل هذه الحسابات المعقدة، كان قرار "الإخوان" بعدم النزول، من وجهة نظرهم، هو الأفضل إن لم يكن لتحقيق المكاسب التي سبق ذكرها، فعلى الأقل للحد من الخسائر وفق منطق أخفّ الضررين. فخسائر عدم النزول التي سبقت الإشارة إليها يمكن تعويضها على المدى القريب، أما خسائر النزول فقد تكون كارثية على المدى البعيد ولربما تعيد الجماعة إلى ما كانت عليه قبل 25 يناير وهو ما لا يمكن لأحد في الجماعة تخيّله. بكلمات أخرى، فإن قرار جماعة "الإخوان" بعدم النزول إلى الشارع قد حكمته "غريزة البقاء" التي تبرز عند المنعطفات التاريخية للجماعة.


خليل العناني

حقوق النشر: صحيفة الحياة اللندنية