صراع الحمّص والكاتيوشا

بدأت الحرب في ذروة الموسم السياحي، وفي ذروة الجدال الدائر بين المختصمين من حلفاء سوريا وإيران من جهة، وجماعة 14 آذار التي قادت انتفاضة سلمية أخرجت الجيش السوري من لبنان من جهة ثانية. تحليل حازم الصوفي

ميثاق الشرف الإعلامي، الذي تمّ الاتفاق عليه قبل أقلّ من شهر بين أقطاب الحوار اللبناني، وجد تطبيقه الفعلي في الحرب الإسرائيلية على لبنان، والمستمرّة منذ 12 تموز، إثر أسر "حزب الله" لجنديين إسرائيليين. بالطبع، لا يغفل اللبنانيون عن كون هذه العملية تزامنت مع الورطة السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تعيشها حركة "حماس"، والتي قامت هي الأخرى بأسر جندي إسرائيلي، في معنى أن عمل "حزب الله" جاء كنوع من تخفيف الضغط عن حليفه الفلسطيني. وبالتالي ينظر اللبنانيون إلى عمل "حزب الله" على أنه من إنتاج خارجي، وإن يكن بذرائع داخلية: تحرير الأسرى اللبنانيين.

لكن بعض الإعلام اللبناني (جماعة 14 آذار تحديداً) يبدو وكأنه مدفوع دفعاً لهذا الشكل من التعامل "الإيجابي"، التعبير الذي حرص معظم المسؤولين على استعماله. ومردّ ذلك سببين: الأول لأن ردود فعل الإسرائيليين كانت عنيفة جداً، وغير متوقعة، ما يوجب على الإعلام، كما السياسيون، اتخاذ موقف إدانة صريح.

والثاني، أن هناك اتفاقاً، وجد لحسن الحظ قنواته الشعبية، يفيد بأن تأجيل العتاب والمحاسبة إلزامي في مثل هذه الظروف، إلى ما بعد انتهاء الحرب. لكن ذلك لا يعني استحالة إيجاد فروقات واضحة في الأخبار العاجلة المبثوثة على شاشات التلفزة: على سبيل المثال، خبر إصابة السيد حسن نصر الله، والذي كان مصدره التلفزيون الإسرائيلي، بثّته بشكل فوري بعض المحطات اللبنانية، بينما انتظرت محطات أخرى صدور تكذيب الخبر على قناة "المنار" لتنقل الخبر منفياً، وبشكل مقرون بالشماتة من المخيّلة الإسرائيلية. لكن المحصّلة أن إجماعاً تمّ على إيجابية المساهمة الإعلامية.

الحاصل أن حالة من التذمّر، تصل ذروتها هذه الأيام، طالما سادت المجتمع اللبناني إزاء تجاهل "حزب الله" للإجماع الداخلي على إعادة بناء دولة منفتحة، تستقطب السوّاح الأجانب، وتستفيد من الفورة النفطية التي تعيشها دول الخليج العربي. لقد بدأت الحرب في ذروة الموسم السياحي، وفي ذروة الجدال الدائر بين المختصمين من حلفاء سوريا وإيران من جهة، وجماعة 14 آذار التي قادت انتفاضة سلمية أخرجت الجيش السوري من لبنان من جهة ثانية.

على الطريقة الشعبية اللبنانية، نستطيع تلخيص هذا الصراع كالآتي: أي لبنان نريد، لبنان الحمّص والطحينة أم لبنان البنادق والكاتيوشا؟ هذا السؤال الذي في وسع أي عابر سماعه من سائقي سيارات الأجرة في بيروت، هو الوجه المسطّح لصراع تحتيّ خطير يدور بين قوى إقليمية ودولية، قوامه اصطفافات طائفية حادة، كادت أن تجد تجسيدها في مناسبات (ذرائع؟) يمكن وصفها بالتافهة (برنامج "بس مات وطن"، على سبيل المثال، الذي قام في إحدى حلقاته بتصوير شخصية السيد حسن نصر الله في شكل ساخر، علماً بأن هذا البرنامج سبق له أن صوّر معظم الشخصيات اللبنانية، حتى أنه مثّل يوماً دور القديس مار مارون).

ما سبق قوله لا يريد أكثر من التدليل على الاحتقان الطائفي اللبناني، الذي يعبّر أفضل تعبير عن الطريق شبه المسدود الذي وصلت إليه اللعبة الإقليمية، إن مع سوريا في قضية التحقيق في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، وإن مع إيران في مسألة استحواذها على التكنولوجيا النووية. وفي ذلك يصح القول إن درجة التوتر السياسي – الطائفي في لبنان تمثّل ما يشبه ميزان الحرارة لقياس درجة الغليان التي وصلت إليها الأزمة الإقليمية.

الاستياء الشعبي اللبناني، في طبيعة الحال، لم يستثنِ شريحة واسعة من الطائفة الشيعية، التي يشكّل "حزب الله"، مع "حركة أمل" نسبياً، ممثلها المطلق في البرلمان والحكومة وطاولة المفاوضات. لقد وصل "حزب الله" إلى أكثر ما يمكن أن يصل إليه أي حزب في طائفته.

لكن التحليل الفوري والمتعجّل للوضع الحالي، في الطائفة الشيعية تحديداً، ليس أكثر من قفزة في المجهول. وفي هذا السياق، يعتقد البعض أن حالتَي التشريد والقتل، اللتين تعرضت لهما الطائفة الشيعية، وما يعني ذلك من اضطرار أبنائها إلى الإقامة في مدارس وحدائق، بل وحتى بيوت خصومهم من الطوائف الأخرى، والتي كانوا قد تحرّشوا بها، في وقت قريب، من خلال النزول إلى مناطقها وإطلاق شعارات استفزازية... أقول يعتقد البعض إن ما تعرّضت له هذه الطائفة جرّاء "المغامرة غير المحسوبة" (بحسب التعبير السعودي) التي قام بها "حزب الله"، سيحتّم على أبنائها القيام بمحاسبة الحزب.

فحتى اليوم هناك أكثر من 700 ألف نازح يقيمون في العراء، وهناك حوالى الثلاثمئة قتيل، وأكثر من ألف جريح. أيضاً وأوّلاً، تمّ تدمير المساكن في أجزاء كبيرة من الضاحية الجنوبية المعقل السكني للشيعة. والأهمّ أن أشهراً قليلة تفصلنا عن الشتاء.

بالطبع، أسئلة كثيرة لا بدّ أن تراود أذهان المشردين حول مصيرهم بعد انتهاء الحرب: أين سيذهبون؟ من سيعيد بناء منازلهم المهدّمة؟ من سيعوّض عليهم محالّهم التجارية وبضائعهم؟ إلخ. لا بدّ أن شريحة مهمة، وهم من المتحزّبين الملتزمين، ما زالوا يظهرون على تلفزيون "المنار" ليقولوا بإنهم مستعدون لخسارة الروح والنفس افتداء لحياة السيد حسن نصر الله.

لكن أحداً لا يستطيع التعويل على الحالة الانفعالية الجهادية الراهنة التي يمرّ بها مثل هؤلاء الناس، خصوصاً اعتبارهم أن الهجمة هذه تستهدف طائفتهم في شكل خاص. أيضاً، لقد بدأ يظهر، في أوساط الشيعة المنكوبين، ما يشبه التبرّم من الصمت السوري والإيراني على المقتلة الجارية في لبنان.

زاد من هذا التبرّم أكثر من تصريح إيراني يهدّد إسرائيل من مهاجمة سوريا، في مقابل اكتفائه بالتنديد على الجرائم الإسرائيلية في لبنان. لقد بدأ يظهر كلام كثير (غير إعلامي) بين النازحين حول التخلّي السوري - الإيراني عن الحزب. خصوصاً أن هذا الحزب، وجمهوره الشيعي، كان قد تلقى كثيراً من اللوم على مخاصمة الأفرقاء الداخليين من أجل "الوفاء لسوريا"، هذا "الوفاء" الذي كان عنوان التظاهرة الشهيرة للحزب (8 آذار 2005) في ساحة رياض الصلح، والتي استطاع الحزب خلالها أن يحشد حوالى السبعمئة ألف مواطن، هم ( ويا للأسف) عدد النازحين في هذه الحرب!

بقلم حازم الصوفي
حقوق الطبع قنطرة 2006

حازم الصوفي كاتب وصحفي مقيم في بيروت.

قنطرة

لبنان: مئات من القتلى، الآلاف من اللاجئين وتدمير البنية التحتية
الحرب الأخيرة هذه أتت أسرع من كل مرة
الحرب الأخيرة هذه أتت أسرع من كل مرة إنه الانتقال الأسرع من حياة السلم الى حياة الحرب. الدقائق التي سبقت الساعة التاسعة والثلث من يوم الأربعاء(12.7). ذاك هي غير الدقائق التي تلتها. قبل ذلك الصباح الفاصل لم يُنذر أحدٌ أحداً بشيء، ولم تظهر أي من العلامات المعتادة التي تشير الى أن الحرب مقبلة. بقلم حسن داوود