إصلاحات ذات حدين وموازنة صعبة

تسعى حكومة إردوغان إلى منح الأكراد في تركيا الذين يبلغ عددهم اثني عشر مليون نسمة المزيد من الحريات - مثل حرية استخدام لغتهم وغيرها من الحقوق الديمقراطية، من أجل إنهاء الأزمة الكردية المستمرة منذ نحو خمسة وعشرين عامًا. ولكن الأوساط القوموية تقف الآن في وجه هذا المشروع. عمر إرزيرين يلقي الضوء على المستجدات في الأزمة الكردية.

رجب طيب إردوغان، الصورة أ ب
مشروع مثير للجدل - رئيس الوزراء التركي، رجب طيب إردوغان عرض يوم الجمعة الماضي في الـ13 من الشهر الجاري في برلمان أنقرة مشروعه من أجل إيجاد تسوية سلمية للنزاع الكردي.

​​ قبل سبعة عشر عامًا تم إبعاد النائبة البرلمانية ليلى زانا من على المنصة المخصَّصة لإلقاء الخطب في البرلمان التركي، وذلك لأنَّها ألقت اليمين الدستورية باللغة الكردية. وكذلك تم رفع الحصانة البرلمانية عنها وعن رفاقها، كما أنَّ بعض البرلمانيين المنتخبين أمضوا عقدًا من الزمن في السجون التركية.

وقد حدث ذلك في فترة كانت تنكر فيها الحكومة التركية وجود اللغة الكردية وتتَّبع فيها سياسة ترمي إلى دمج الأكراد، وبالإضافة إلى ذلك تم إصدار قوانين لمكافحة الإرهاب، من دون ذكر الأسباب التي تكمن خلف هذا النزاع الدموي المسلح والمستمر منذ عدة عقود من الزمن، والذي قتل فيه حتى الآن نحو أربعين ألف شخص- من الجنود الأتراك ومقاتلي حزب العمال الكردستاني وقبل كلِّ شيء من المدنيين الأكراد.

بوادر المصالحة

والآن تغيَّرت الأوضاع مثلما ظهر ذلك بوضوح في جلسات البرلمان التي تم عقدها في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري. وهكذا قدَّم على سبيل المثال رئيس "حزب المجتمع الديمقراطي"، أحمد ترك، في البرلمان التركي عرضًا عن معاناة الأكراد في تركيا وعن التمييز الذي يتعرَّضون له من قبل الدولة والإجراءات القمعية التي يتم اقترافها بحقهم وعن الماضي الدموي الذي عانوه.

وقال ترك إنَّ تنظيم حزب العمال الكردستاني الذي يخوض حرب عصابات، نشأ نتيجة للسياسة الفاشلة التي تتَّبعها الحكومة والتي تحرم الأكراد من حقوقهم؛ وأضاف قائلاً: "من الممكن أن يتم إلقاء السلاح بعد ثلاثة أشهر!"

وعندما ألقى أحمد ترك كلمته التي تحدَّث فيها حول تعرّض "الشعب الكردي لإبادة جماعية" بعد الانقلاب العسكري الذي حدث في العام 1980، خيَّم الهدوء بشكل ملحوظ على البرلمان؛ حيث أصغى إليه النواب. ولم تحدث الضجة في البرلمان إلاَّ عندما أبدى رئيس الوزراء التركي، رجب طيب إردوغان، رأيه في المشروع الذي قدَّمته الحكومة والذي يعطي الأكراد المزيد من الحقوق الديمقراطية.

تحوّل منهجي في السياسة التركية

البرلمان التركي، الصورة أ ب
نقطة تحوّل في تاريخ تركيا - للمرة الأولى منذ تأسيس الجمهورية التركية ناقش البرلمان التركي المسألة الكردية في جلستين.

​​ وخطاب رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان، كان بمثابة نداء من أجل إنهاء سفك الدماء وبيان من أجل المصالحة؛ إذ إنَّه قارن ما بين هموم والدة جندي تركي وهموم أم كردية يقاتل ابنها في حرب العصابات. ومثل هذه المقارنة تظهر التحوّل المنهجي في السياسة التركية. وعندما انتقد رئيس الوزراء الأشخاص الذين "حاولوا ممارسة العمل السياسي فوق جثث الجنود الذين سقطوا"، غادر نواب "حزب الشعب الجمهوري" قاعة البرلمان. وقبل ذلك اتَّهم زعيم المعارضة، دنيز بايكال رئيس الوزراء "بالتعاون مع إرهابيي حزب العمال الكردستاني"، كما أنَّ "حزب العمل القومي" تحدَّث حول "خيانة الوطن".

تعزيز الحقوق الديمقراطية

وفي ذلك يقتصر مشروع الإجراءات المحدَّدة من أجل دمقرطة البلاد والذي تم اقتراحه من قبل الحكومة على إجراء إصلاحات طفيفة، من المفترض أنَّها سوف تعمل على تعزيز حقوق المواطنين الديمقراطية. فمن المفترض أن يتم تأسيس هيئة رقابة مستقلة مهمتها التحقّق من وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان ومن مزاعم التعذيب، بالإضافة إلى تشكيل لجنة من أجل مكافحة التمييز. وعلاوة على ذلك من المفترض تمكين السياسيين في المستقبل أيضًا من إلقاء كلماتهم باللغة الكردية من دون تعرّضهم لملاحقات قضائية.

خارطة كردستان، الصورة أ ب/ دويتشه فيله
خطط حكومة إردوغان بعيدة المدى تحتوي أيضًا على اقتراح يتيح للمناطق الكردية الحقّ في حصولها على أسمائها الكردية القديمة التي تم استبدالها قبل أعوام بأسماء تركية.

​​ وفي المساجد سوف يسمح في المستقبل بإلقاء الخطب باللغة الكردية. وكذلك من المفترض أيضًا السماح لقنوات الراديو والتلفزة الخاصة بالبث طيلة اليوم؛ ومن الممكن أيضًا أن تستعيد المناطق الكردية التي كانت تحمل طيلة قرون من الزمن أسماءً كردية وأُطلقت عليها أسماء تركية ضمن إطار عملية دمج الأكراد، أسماءها الأصلية من جديد. ولكن مشروع الإصلاحات هذا لن يغيِّر المسار على الإطلاق، مثلما يبدو ذلك من النظرة الأولى. فقد تم تجنّب التطرّق لموضوعات مهمة، مثل حقّ الأكراد في تعليم لغتهم الأم في المدارس الحكومية.

وهكذا تحدَّث أيضًا وزير الداخلية التركي، بشير أتالاي عن "عملية ديناميكية". وقال إنَّ الضرورة تقتضي على المدى الطويل وضع دستور ديمقراطي ومدني "يراعي التعدّدية والحريات". وعلى الرغم من إقرار بعض التعديلات الدستورية، إلاَّ أنَّ دستور عام 1982 الذي فرضه العسكريون بعد الانقلاب العسكري في العام 1980 ما يزال ساري المفعول.

ولكن إنَّ مجرَّد حقيقة وجود حكومة تركية تذكر للمرة الأولى هذه المشكلة ومجرَّد التمكّن من إجراء مناقشة حولها في البرلمان، فهذا أمر يوضِّح مدى الأوضاع المهدَّدة بالانفجار. فقد قال رئيس الوزراء، رجب طيب إردوغان هذه العبارات التي يتم ذكرها مرارًا وتكرارًا: "نحن لا نريد أن تبكي الأمهات على أبنائهم القتلى".

مجتمع يتوق إلى السلام

والنائب المعارض، أونور أويمن Onur Öymen أشار إلى التمرّد الذي حدث في مدينة ديرسم في عامي 1937-1938 وبرَّر القضاء عليه بالقوة العسكرية. وقال أيضًا إنَّ الأمَّهات بكين في تلك الأيَّام. حيث يعتبر القضاء على تمرّد ديرسم وقصف القرى والتهجير القسري لعشرات الآلاف من الأكراد الزازائيين العلويين واحدًا من أكثر الأحداث دموية في تاريخ تركيا الحديثة. ولكن مع ذلك فمفهوم البطش العسكري لا يتَّفق مع تطلعات مجتمع يشكو من سقوط عشرات الآلاف من القتلى ويتوق إلى السلام الاجتماعي.

كما أنَّ إردوغان ووزراءه يريدون في الأسابيع المقبلة الترويج في جميع أنحاء البلاد وفي خطابات عامة لبرنامجهم الذي يهدف إلى "الانفتاح الديمقراطي". وفي المقابل سوف تخوض المعارضة معركة بشعارات مثل "خيانة الوطن" و"التعاون مع الإرهابيين" ضدّ خطط الحكومة. ومن الممكن أن تشرف البلاد على حملات استقطاب.

موجة من السخط

مظاهرات أنصار حزب العمال الكردستاني، الصورة أ ب
تضامن مع عبد الله أوجلان - اجتمع فقط في ديار بكر التي تقع في المنطقة الكردية في جنوب شرق تركيا في الـ19 من تشرين الأول/أكتوبر نحو خمسة آلاف كردي للتظاهر من أجل الإفراج عن زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل.

​​ وحزب العمال الكردستاني هو الذي يهيِّئ للمعارضة المناخ المناسب من أجل الترويج لدعايتها. وفي شهر تشرين الأول/ أكتوبر سافر بناءً على طلب من زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان المعتقل في سجن في جزيرة إمرالي، ثمانية أشخاص من مقاتلي حزب العمال الكردستاني عبر معبر الخابور الحدودي إلى تركيا "كسفراء سلام"؛ وأعلنوا أنَّهم ألقوا أسلحتهم. وقامت الحكومة التركية بإرسال مدَّعين عامين وقضاة تحقيق إلى هذا المعبر الحدودي، من أجل إتمام التحقيقات مع هؤلاء المقاتلين. وبعد عدة ساعات من استجواب هؤلاء الرجال والنساء تم إخلاء سبيلهم.

وبعد ذلك احتفل عشرات الآلاف من الأكراد، مستخدمين مكبِّرات الصوت ورافعين رايات حزب العمال الكردستاني وصور عبد الله أوجلان، بوصول مقاتلي حزب العمال الكردستاني. وصور هؤلاء المقاتلين الذين عبروا الحدود وتم بثها في التلفزيون أثارت في غرب تركيا موجة من السخط. وجنَّدت الأوساط القوموية بعض أمهات الجنود الذين قتلوا. ولذلك تراجعت الحكومة إلى موقف دفاعي وأكَّدت أنَّها لن تتفاوض قطّ مع إرهابيين.

حزب العمال الكردستاني - التحدي الأكبر

وفي الحقيقة إنَّ وجود تنظيم مسلح يخوض حرب عصابات ويضم آلاف من المقاتلين في الجبال، يشكِّل المشكلة الأكبر التي يجب على تركيا حلها. ولا يتعلق الأمر لدى الكثير من الأكراد فقط بالتمتّع بالحقوق الديمقراطية؛ بل كذلك بمعالجة تاريخهم الخاص. فعبد الله أوجلان ومقاتلو حزب العمال الكردستاني يعتبرون من وجهة نظر ملايين الأكراد أبطالاً قوميين.

ولكن لا توجد أي حكومة تركية قادرة على الدخول في حوار علني مع حزب العمال الكردستاني - حتى وإن كان هناك في بعض الأحيان انطباع يفيد بوجود اتِّصالات سرية على الأقل من خلال المخابرات. ولكن على المدى الطويل لا يمكن التوصّل إلى حلّ إلاَّ عندما يقوم حزب العمال الكردستاني بإلقاء سلاحه ويتم ربطه ضمن الأطر القانونية والمؤسساتية في النظام السياسي. وحلّ المسألة الكردية لا يندرج فقط في الأجندة السياسية الخاصة بالحزب الحاكم؛ بل إنَّ منفعة الدولة التركية ومصالحها السياسية الخارجية تقتضي التوصّل إلى تسوية سلمية لهذا النزاع.

تحوّل في السياسة الخارجية

وقبل عقد من الزمن كانت تركيا على وشك الدخول في حرب مع سوريا، وذلك لأنَّ سوريا كانت تأوي لديها زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان. ولكن منذ بضعة أسابيع يمكن للسورين وللأتراك السفر من دون تأشيرة بين سوريا وتركيا؛ وكذلك تريد الآن هاتان الدولتان إزالة الألغام المزروعة في المنطقة الحدودية من أجل استغلال هذه المنطقة في الزراعة البيولوجية.

مسعود البرزاني، الصورة أ ب
تحالفات استراتيجية جديدة - توجد اليوم بين إقليم كردستان العراق برئاسة مسعود بارزاني وبين تركيا علاقات اقتصادية مميَّزة؛ فتركيا أصبحت الآن أكبر مستثمر في كردستان العراق.

​​ ومنطقة إقليم كردستان في شمال العراق تتمتَّع بحكم ذاتي وباستقلال نسبي عن الحكومة المركزية في بغداد، وتمتلك مخزونات من النفط والغاز. وطيلة عقود من الزمن كان إقليم كردستان في شمال العراق منطقة يقوم فيها الجيش التركي بعمليات عسكرية وبقصف معسكرات حزب العمال الكردستاني من الجو. وكانت تركيا تدعم دائمًا بغداد ضدّ الأكراد. ولكن اليوم توجد علاقات اقتصادية مميَّزة بين تركيا وأكراد العراق؛ إذ أصبحت تركيا الآن أكبر مستثمر في إقليم كردستان العراق، بالإضافة إلى أنَّها تشكِّل طريق تصدير النفط والغاز إلى مصافي النفط وميناء جيهان التركي الواقع على البحر الأبيض المتوسط.

وكذلك أصبحت تركيا وإقليم كردستان العراق شريكين لهما مصالح اقتصادية مشتركة. وما من شك في أنَّ حرب العصابات التي يخوضها حزب العمال الكردستاني في الجبال تعتبر مزعجة للغاية بالنسبة للطرفين. ومشروع "الانفتاح الكردي" يعدّ أهم وأخطر مشروع سياسي تطرحه حكومة رجب طيب إردوغان المحافظة.

وإذا قدِّر لهذا المشروع النجاح في التوصّل إلى السلام الاجتماعي وجعل الأكراد يلقون أسلحتهم، فعندئذ سوف يخرج إردوغان أقوى من ذي قبل. ولكن إذا باء مشروعه بالفشل، فمن الممكن أن يكلفه ذلك كلَّ شيء ويؤدِّي إلى تدميره. وعلى الرغم من أنَّه لم يتم إيجاد حلّ للمسألة الكردية في تركيا من خلال "الانفتاح الديمقراطي" الحالي، إلاَّ أنَّ هذه المسألة قد وصلت إلى نقطة لا يمكن فيها إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف وكذلك تم تمهيد الطريق إلى الحلّ.

عمر إرزيرين
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009

قنطرة

فشل حظر حزب العدالة والتنمية:
تركيا تتنفَّس الصعداء

فاجأت المحكمة الدستورية التركية المراقبين برفضها طلب حظر حزب العدالة والتنمية. وبهذا حصل رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان على فرصة ثانية لإنهاء الصراع الدائر على السلطة بين العلمانيين والإسلاميين. كما شكَّلت المسألة الكردية عاملاً مهمًا في قرار المحكمة. تعليق من ديلَك زابتچي أُوغلو.

حزب المجتمع الديموقراطي الكردي مهدد بالحظر:
إستراتيجية تصعيد الأزمة

افلح حزب المجتمع الديموقراطي في شهر حزيران/يونيو الماضي للمرّة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية في تشكيل جناح برلماني مؤيّد للأكراد في البرلمان التركي. بيد أنَّ هذا الحزب مهدد الآن بالحظر بسبب تقاربه السياسي مع حزب العمال الكردستاني. التفاصيل من أنتيه باور.

العنف في تركيا:
فقدان البوصلة لدى الحركة الكردية

بعد فترة قصيرة من عرض الهدنة الذي تقدم به حزب العمال الكردستاني إلى الدولة التركية أقدمت مجموعة تطلق على نفسها اسم "صقور حرية كردستان" على شن سلسلة من الهجمات الإرهابية. هذه الهجمات تعكس فقدان الرؤية داخل الحركة الكردية. تقرير كتبه عمر ايرزيرين.