طواف إبداعي

بعد "الإغراءات المحمّدية" أصدر مترجم وناشر الأدب العربي شتيفان فايدنر كتابا نثريا جديدا يتطرق فيه بأسلوب أدبي إلى سفره إلى المغرب. لويس غروب قرأ لنا هذا الكتاب.

​​إنه لمن المهزلة ذات الطابع الساخر المرّ أن لا يستيقظ اهتمام الإعلام الغربي بالثقافات العربية والإسلامية إلا على إثر الرجة التي أحدثتها عمليات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. وفي ظل الضغط المتنامي للحاجة الملحة إلى إنتاج محتويات إعلامية في هذا المجال وجد عدد من الكتاب أنفسهم مضطرين إلى عمليّة تكوين استعجالي يجعل منهم مختصين في الميدان.

لكن شتيفان فايدنر ليس من أولئك الذين ركبوا قطار الأحداث بعد لحظة الانطلاق، بل إنه قد أخذ على عاتقة منذ سن السابعة عشر بقرار شخصي القيام برحلة تعليمية معرفية داخل بلدان المغرب العربي.

أما دراسته الجامعية المكلِّلة لهذه الرحلة المعرفية فقد أتمّها في كل من جامعات بيركلي ودمشق. بعدها كان لهذا الأكاديمي المحصِّل أن يثبت مقدراته كمترجم للأدب العربي في ألمانيا. ومن بين إنجازاته في هذا المجال ترجمة أشعار إثنين من كبار وأشهر شعراء الأدب العربي المعاصر، وهما الفلسطيني محمود درويش والسوري أدونيس.

وكمشرف على تحرير مجلة "فكر وفن" ذات المحتوى الرفيع غدا شتيفان فايدنر المقيم في مدينة كولونيا قناة وصل مهمة في مسار التبادل الثقافي بين الفضائين العربي والألماني.

تجوال دون غاية في الظاهر

من المفترض على كل رجل أدب حقيقي أن ينتهي في وقت ما إلى التحول من وسيط إلى منتج لعمله الأدبي الخاص، وهكذا نرى شتيفان فايدنر، وبعد كتابه "إغراءات محمدية" الحاصل على جائزة برنتانو لسنة 2004 يخرج علينا الآن بكتاب نثري جديد بعنوان "فاس- دوائر الطواف السبع".

والعنوان الإضافي يحيل هنا على اللفّات السبع التي يقوم به الطائف حول الكعبة أثناء آداء طقوس الحج. ولئن كانت رحلة الحج تفترض قدرة على التجميع والتركيز فإن العمل السردي لفايدنر في كتاب "فاس" يظهر لنا بعكس ذلك:

إذ دون هدف نرى ر. الشخصية المركزية لهذا العمل يتحرك داخل قصته الخاصة. وفي الأثناء يسأل ر. نفسه وهو ينجز دورته الطوافية الخامسة إن لم يكن يتصرف ضد قناعاته الخاصة في عمله هذا. "كلا"، يجيبنا الكاتب ،"بل ليست له من قناعة". وفي موقع آخر نقرأ "هل هو ينبش وينقب داخل هوياته المتعددة ومراحل سيرته الحياتية التي وجد نفسه مقحما داخلها منذ عهد غير بعيد؟"

وعلى غرار التهوام دون هدف للشخصية المركزية للكتاب كذلك جاءت البنية الهيكلية التي يتأسس عليها العمل؛ مركز يتكثف فيه المعنى(شيء شبيه بالكعبة)، لكن لا وجود لبناء درامي ذو معالم محددة في هذه الدوائر السبع "للطواف".

ازدواجية الأجناس

هناك طبعا نصوص أدبية ترد دون أية بنية هيكلية محددة أو تشكيل درامي، وينطبق هذا بصفة خاصة على كتابة أدب الرحلة التي تتميز عادة بالأناقة الأسلوبية والمقدرة الفردية على المعاينة لدى الكاتب. لكن ضمن أي نوع يمكن للمرء أن يصنف كتاب "دوائر الطوفان السبع"؟

شتيفان فايدنر يمنح نفسه حرية عدم التقيد بنوع بعينه. فقد جعل "إغراءات محمدية" تظهر إلى الوجود تحت تسمية "المقاربة السرديّة"، و"فاس" قد تمت صياغتها هي الأخرى على نحو مشابه من ازدواجية النوع؛ فمن ناحية يوضح الكاتب منذ البداية بأن الأمر يتعلق هنا بعمل من صنف "المتخيّل الأدبي"، وفي الآن نفسه يضمن عمله نص المقال الذي سبق أن نشر في صحيفة "نوية زوريخر تسايتونع" والذي يوثق فيه لرحلته الجديدة وللقاء الشعراء المغاربة والألمان، وهي المنطلق الذي تمت على أساسه صياغة هذا النص.

في كتاب "فاس" نجد الإشكال نفسه الذي كشف عنه هلموت بوتينغر في كتاب "إغراءات محمدية"، ويتمثل هذا الإشكال في أن الكاتب يتمكن، في وضع من الشك والريبة، إلى الانكفاء على مقاربة قائمة على ذاتيته الخاصة كمرجع اعتباري محدِّد، "لكنه يظل في الآن نفسه يعبر على الدوام عن طموح موضوعي."

فعندما يمنح فايدنر الكاتب المغربي أحمد نصيب فرصة للتفكّر في تاريخ إسبانيا الموريسكية مثلا، فهل تعكس الآراء التي يعبر عنها هنا وقائع تاريخية مدققة وثابتة أم لا؟ وعندما يصف حياة وظروف معيشة العمال المهاجرين الصينيين في الجزائر، فأين يوجد الحد الفاصل بين الواقعة المعيشة والمتخيّل يا ترى؟

أكيد إنه بإمكان المرء أن يسلم بأن استعراض مراحل من حياة المفكر ابن خلدون ونظرياته حول "الطابع الدوري للوقائع التاريخية" لم يتم استنباطها من الخيال، وأن الاستشهاد بشيء من السخرية ذات الطابع البياني الموجز بعناوين فصول من المقدمة التي وضعها ابن خلدون لكتاب التاريخ الكوني مثل ("فصل في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب"، و "فصل في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة المُلك") قد تم إيرادها بأمانة تامة. لكن حتى هذه الفقرات فهي بحكم الطابع الروائي المتخيل المعلن عنه تظل لا تترك غير انطباع غائم سرعان ما يختفي دون أن يترك أثرا في ذهن القارئ.

وعلى العموم فإن هذا الكتاب يعطي انطباعا كما لو أنه قد تمت صياغته بكثير من التسرع. ومن المحتمل أن الكاتب والناشر، وبعد الأصداء الصحفية الإيجابية في معظمها التي لقيها الكتاب الأول، وجائزة برنتانو التي توّج بها، أرادا أن يعيدا الكرة باسرع ما يمكن.

لكن على المرء أن يلتمس لفايدنر عذرا مع ذلك في أنه قد توفق في كتابة رحلته إلى التطرق إلى البلاد وسكانها وثقافتها بطريقة مجردة من الأغراض المسبقة ودون أي ضرب من الحذلقة الثقافية. وفي هذا كله يفشي كتاب "فاس" تحفظا ريبيا عميقا قد حصّن الكاتب من الوقوع في مطبات الانزلاق في رؤيته إلى ألاشياء. ومن المحتمل أيضا أن هذا التحفظ المرتاب هو بالذات ما منعه أيضا من أن يجعل كتابه يكتسي طابعا أكثر صرامة في حبكة المحتوى و شكلا أسلوبيا أكثر متانة.

بقلم لويس غروب
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2006

قنطرة

شتيفان فايدنر: إغراءات محمدية
من الصعب وصف كتاب شيفان فايدنر، لأنه لا يمكن تصنيفه في إحدى خانات الأدب المعتادة، فهذا الكتاب يملك من كل خانة أدبية شيئاً ما، كم أنه كتاب ذو طابع شخصي إلى حد بعيد يعالج عالم الثقافات والأديان.

إلتباس خلاق
التحرر من القوالب الكلاسيكية، والاستفادة من الشعر العربي كمنبع لاستلهام قوة مضادة لشعر ما بعد الحداثة: هكذا يمكن تلخيص توقعات الطرفين الألماني والعربي. تقرير شتيفان فايدنر أحد النقاد الألمان الذين شاركوا في اللقاء