ضرورة فصل الدين عن الدولة

رغم العنف المتصاعد في العراق، فإن الجماهير العراقية تتحرك بشكل متزايد نحو تصور لحكومة ديمقراطية غير طائفية للبلاد، حسب رأي أستاذ علم الاجتماع منصور معدل، الذي شارك باستطلاعين للرأي في العراق.

نساء يشاركن في الانتخابات البرلمانية العراقية 2005، الصورة: أ ب
نساء يشاركن في الانتخابات البرلمانية العراقية 2005

​​

إن العنف المتصاعد في العراق يترك انطباعاً كئيباً بشأن مستقبل ذلك البلد. والصراع الطائفي يبدو وكأنه ينمو مع شروق شمس كل يوم جديد، حيث تذبح المليشيات المسلحة الآلاف من السُـنّة والشيعة لا لسبب غير انتماءاتهم الدينية.

ومع ذلك فمن الخطأ أن نتصور أن هذا التعطش إلى الدماء يمثل نطاقاً عريضاً من الشعب العراقي. فعلى الرغم من عجز المسئولين الأمنيين سواء على الجانب الأميركي أو العراقي عن التوصل إلى وسيلة لترويض الميليشيات المسلحة، إلا أن الجماهير العراقية تتحرك على نحو متزايد نحو تصور لحكومة ديمقراطية غير طائفية للبلاد.

في عامي 2004 و2006 شاركت في إدارة استطلاعين للرأي العام على مستوى العراق. وبمقارنة نتيجتي الاستطلاعين يتبين لنا أن تصاعد وتيرة العنف خلال العامين اللذين فصلا بين الاستطلاعين جعل العراقيين ينظرون على نحو متزايد إلى مصائرهم في سياق وطني بدلاً من النظر إليه في سياق طائفي.

وخلال هذه الفترة ارتفع عدد العراقيين الذين أكدوا على احتياج العراق بشدة إلى الديمقراطية من 59% إلى 65%. وهؤلاء هم العراقيون ذاتهم الذين أدركوا الارتباط بين الديمقراطية الفاعلة وبين ضرورة فصل الدين عن السياسة والدولة، كما يحدث في الأنظمة الديمقراطية الغربية.

وفي المجمل فإن هؤلاء الذين أكدوا "موافقتهم الكاملة" على أن العراق سوف يصبح مكاناً أفضل إذا ما انفصل الدين عن السياسة، ارتفعت نسبتهم من 27% في عام 2004 إلى 41% في عام 2006. ومن بين النتائج ذات المغزى الخاص ارتفاع النسبة بين السُـنّة الذي يرون نفس الرأي من 24% إلى 63% أثناء نفس الفترة، وارتفاعها بين الأكراد من 41% إلى 65%. أما نسبة من يرون هذا الرأي بين أفراد التجمعات السكانية ذات الأغلبية الشيعية فقد ظلت ثابتة عند معدل 23% في الاستطلاعين.

وعلى نحو مماثل أظهرت نتائج الاستطلاع الأخير انحداراً في معدلات تأييد قيام دولة إسلامية. فبين عامي 2004 و2006 انخفضت نسبة العراقيين الذين أعربوا عن موافقتهم الكاملة على قيام حكومة إسلامية تمنح الزعامات الدينية سلطة مطلقة، من 20% إلى 22%.

ولقد شمل ذلك الانخفاض الجماعات العرقية الثلاث الرئيسية في البلاد، حيث كان الانخفاض بين الشيعة من 39% إلى 35%، وبين السُـنّة من 20 إلى 6%، وبين الأكراد من 11% إلى 5%. وأشار الاستطلاع أيضاً إلى ارتفاع في نسبة الشيعة الذين يرون ضرورة اضطلاع الدين بدور قوي في القوانين الوطنية، لكن الأغلبية ما زالت ترفض هذا الرأي.

كما أكدت نتائج الاستطلاع الأخير تزايداً في المشاعر القومية. فحين سُـئِـل المشاركون في الاستطلاعين عما إذا كانوا يعتبرون أنفسهم عراقيين في المقام الأول أو مسلمين في المقام الأول، أجاب 28% في الاستطلاع الأخير بأنهم عراقيون في المقام الأول، مقارنة بحوالي 23% في استطلاع 2004. وفي العاصمة بغداد التي تعد مركزاً للعديد من أعمال العنف الطائفي، فقد كانت النتائج أكثر إثارة للتعجب، حيث تضاعفت نسبة هؤلاء الذين يرون أنفسهم عراقيين في المقام الأول من 30% في عام 2004 إلى 60% في عام 2006.

وعلى النقيض من هذا، أظهرت استطلاعات مشابهة في عواصم عربية أخرى ميلاً واضحاً نحو الهوية الإسلامية. ففي عمان والأردن أظهرت آخر النتائج أن 12% من المشاركين في الاستطلاع يقدمون هويتهم الوطنية على هويتهم الإسلامية. وكانت النسبة 11% في القاهرة بمصر، و17% في الرياض بالمملكة العربية السعودية. ومن اللافت للنظر أن الخيار في طهران عاصمة إيران كان لصالح الهوية الإيرانية على نحو واضح. فبين سكان العاصمة الإيرانية، ارتفعت نسبة "القوميين" من 38% في عام 2000 إلى 59% في عام 2005.

وفي ذات الوقت أظهرت المواقف العراقية ردود أفعال قوية إزاء العنف اليومي الدائر في العراق. فبين عام 2004 و2006 ارتفعت نسبة أولئك الذين يرون أن الحياة في العراق "غير متوقعة وخطيرة" من 46% إلى 59%. ولقد شمل هذا التغيير كافة الطوائف العراقية، حيث ارتفعت النسبة من 41% إلى 48% بين الشيعة، ومن 77% إلى 84% بين السُـنّة، ومن 16% إلى 50% بين الأكراد. وفي ذات الوقت وجد الاستطلاعين نسبة ضئيلة للغاية بين المجموعات العرقية الثلاث ممن يؤيدون الصراع الطائفي.

لقد كان للعنف تأثيراً هائلاً على المواقف العراقية حيال الأجانب. ففي عام 2006 بلغت نسبة عدم الثقة في الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين 90%. كما كانت المواقف إزاء الدول المجاورة للعراق أيضاً متوترة، حيث أكد أكثر من نصف العراقيين الذين شملهم الاستطلاع أنهم لا يرحبون بالأتراك أو الأردنيين، أو الإيرانيين، أو الكويتيين كجيران لهم. ويبدو أن هذه المشاعر مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالعنف المستشري في العراق، والدور الذي يلعبه الأجانب في انزلاق العراق إلى هذا الوضع الأمني الخطير.

من هنا نستطيع أن نقول إن العراقيين يظهرون ارتباطاً أكبر بهويتهم الوطنية، وأنهم يؤيدون تشكيل حكومة غير طائفية. وهذه هي السمات الأساسية للنظام السياسي الحديث. وكما رأينا فقد انحدر تأييد إقامة دولة إسلامية بصورة واضحة بين السُـنّة، وقد يكون لهذا التحول تأثير كبير على قدرة المتطرفين الدينيين على تجنيد المزيد من الأفراد من السُـنّة.

ومع أن العراقيين ما زالوا غاضبين إزاء العنف الدائر في بلادهم، إلا أن هذا الغضب لم يؤثر على حسهم بهويتهم الوطنية. كما تبين أن العراقيين متمسكون بقيم ديمقراطية على جانب كبير من الأهمية. وبطبيعة الحال، فإن السؤال الرئيسي في هذا السياق يظل ما إذا كان الشعب العراقي قادراً على ترجمة هذه القيم إلى واقع سلمي فعلي.

بقلم منصور معدل
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2006.
ترجمة أمين علي

منصور معدل أستاذ علم الاجتماع بجامعة ميشغان الشرقية ومؤلف كتاب "الحداثة الإسلامية، والقومية، والأصولية: الحدث والحديث".

قنطرة

حرب أهلية مصغرة
يقدم فالح عبد الجبار، مدير معهد العراق لمعلومات الديمقراطية، في الحوار التالي تحليلا للوضع الحالي الذي يعيشه العراق ويطرح سيناريوهات مختلفة للخروج من دوامة العنف، بما في ذلك سيناريو الفيدرالية

حروب جيو ـ أهلية في الشرق الأوسط
الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط ليست صراعاً بين الحضارات او مجرد حرب أهلية، بل انها حرب جيو- أهلية، حسب قول جون برنكمان، الأستاذ الجامعي ومحلل الشؤون الدولية

www

project-syndicate