الحكومة التركية في مأزق

بعد الاعتداءات في إسطنبول يواجه رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان ضغطاً دولياً. هل استهان بالتطرف الاسلامي في بلاده؟ تحليل الصحفية التركية ديلك زَبتشيوغلو .

الحكومة التركية في مأزق

بحلول شهري تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الاول/أكتوبر يسود موسم الضباب في إسطنبول، إذ تهبط غشاوة كثيفة على المدينة، وتشل أحياناً حركة السفن في البوسفور كلياً. غير أن ضباباً أكثف قد خيم هذه الأيام بعد الضربات الإرهابية، التي هزت المدينة التي يسكنها إثنا عشر مليون مواطن حتى النخاع.

من هم المعتدون؟ هل يقف تنظيم القاعدة فعلاً خلف هذه الضربات؟ في نهاية الأمر أعلن مسؤوليته مباشرة بعد الاعتداءات، إذ أن كتيبة أبي الحفص المصري نشرت بيانا وزعته على جرائد عربية صادرة في لندن وعلى صفحات الإنترنت. بذلك تحولت تركيا فجأة إلى "دولة مواجهة في الحرب على الإرهاب" على حد تعبير الرئيس الأمريكي.

فك ألغاز الأسباب والدوافع خلف الضربات

تولدت في تركيا لأيام عديدة مختلف الإشاعات التخمينات: هل استهدف الإرهابيون الكنيسين اليهوديين والمنشآت البريطانية فقط، أم أن تركيا بذاتها كانت مستهدفة أيضاً؟ الحكومة التركية بزعامة حزب العدالة والتنمية التي توصف بالإسلامية المعتدلة تجد الآن على ما يبدو صعوبة في تسمية الأمور بمسمياتها. ففي أول يوم من عيد الفطر ظهر رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان، رئيس حزب العدالة والتنمية، بعد صلاة العيد مباشرة وأعلن عن حزنه وأسفه، وصرح بأنه: "لا يهون لي أن يُذكر الإسلام والإرهاب في نفس السياق، فنحن ايضاً لا نتحدث أبداً عن إرهاب مسيحي أو يهودي. والأديان السماوية الثلاثة تدعو لحماية الحياة وليس لإلغائها، ومن يقضي على حياة إنسان يعتبر في الإسلام كمن يفجر بيت الله".

هل كان تعامل الحكومة متهاوناً مع المتطرفين؟

تلقت الحكومة التركية اللكمات بشكل مفاجئ، إذ وُجِهت لها الإتهامات بعدم رصدها الكافي للأوساط الإسلاموية الراديكالية منذ استلامها السلطة قبل عام. رئيس الشرطة السابق ووزير الداخلية سعد الدين طانطان صرح محتجاً وبلا مواربة: "بأن رجال الامن لا يستطيعون التسلل الى هذه المنظمات منذ سنة، كما أن أرشيف الدولة عن المتطرفين مُهمل ولا يُستفاد منه". "الخبراء في هذا المجال يُنقلون الى مواقع غير معنية، ففي مناطق إنتعاش الأصولية الدينية تم تعيين رؤساء للشرطة وحُكام مُقرَّبين من حزب العدالة والتنمية أو من المحسوبين على "النُشطاء" المُتدينين.

هل المسؤولون في حكومة حزب العدالة والتنمية مصابون بالعمى؟ لماذا لا يتعاملون بالشدة المطلوبة مع الإرهاب ذي الدوافع الدينية؟ أم أن تركيا بلا حماية "في وجه الذئاب"؟ كما صرّح حديثاً أُزان تشيهون النائب الأوروبي عن الحزب الإشتراكي الألماني.

"الأتراك الأفغان" – هم شركاء شبكة القاعدة

إلا أن تقديرات رُسن شاكرمختلفة، وهو أحد المختصين القديرين بشؤون الأوساط الإسلاموية في تركيا. فقد قال "إن حزب العدالة والتنمية مصدوم بما حدث مثله مثل المجتمع التركي. حزب العدالة والتنمية تخلى عن المواقف المتطرفة وبشكل جدير بالثقة منذ زمن، ولن ينحني في النهاية امام هذا الإرهاب".

نظريات المؤامرة من نوعية الإشاعات القائلة بأن جهاز المخابرات الأمريكية CIA أو الإسرائيلية الموساد يريدون ربط تركيا بالغرب أكثر، أحدثت بعض الإرباكات داخل حزب العدالة والتنمية. فحسب رأي المُختص رُسن شاكر فإن "الأتراك الأفغان" هم المتورطون في ضربات إسطنبول، أي هؤلاء الرجال الذين قاتلوا بملء إرادتهم في أفغانستان والبوسنة والعراق، كما يعتقد أن هؤلاء "الأفغان" يشكلون حلقة الإتصال مع تنظيم القاعدة. هذا التنظيم الذي طور تكتيكاً جديداً في ضربات المغرب وتونس وأندونسيا وتركيا، إذ أنه وظّف متطرفين محليين للعمليات الإنتحارية، بينما يقبع المخططون في المنطقة العربية.

نظرة إلى "Bingöl connection"

يبدو أن ضباب إسطنبول قد انقشع رويداً رويداً. الرؤية اصبحت أوضح: بِنغول مدينة صغيرة، تقع في مناطق معظم سكانها من الأكراد وتبعد 1300 كلم عن إسطنبول. ثلاثة من المهاجمين الأربع الذين تم التعرف عليهم أتوا من هذه المدينة: مسعود تشابوك وكوِكهان إلألتُنطاس لقيا حتفهما في الضربات على الكنيسين اليهوديين، أما فريدون أُغورلو وعزت إكنجي فهما إما هاربان أو بين ضحايا الهجمات على القنصلية البريطانية وبنك الإستثمار البريطاني HSBC، فيما اعتقلت محكمة أمن الدولة 18 من المشتبه بهم حتى الآن، من بينهم إمرأتان. من هم الفاعلون؟ ومن هم هؤلاء المتهمون ولأي تنظيم ينتمون؟

تمكنت القوات الأمنية التركية أثناء عملياتها في بِنغول من أن تستولي على ما يسمى بجداول حساب حزب الله التركي. ويقال أن هذه المنظمة الإسلامية الراديكالية كانت قد أصدرت قرارا سابقاً يقضي بالعمل المشترك مع تنظيم القاعدة.

حين تشكل حزب الله في تسعينات القرن الماضي في مدينة بتمان غضّت قوات الأمن الطرف عنه، لأن المعركة الأساسية في ذلك الوقت كانت موجهة ضد حزب العمال الكردستاني PKK، الحزب ذي التوجهات الإنفصالية. كان الناس حينها يُقتلون علانية في الشوارع دون أن يلاحق القانون الفاعلين. ويقال أن ثلاثة الآف جريمة قتل سُجلت على خانة حزب الله التركي الذي ناهز عدد أعضائه ال 20000 عضو في ذلك الحين.

ضربة ضد الإسلاميين المتطرفين

في العام 1997 أوقفت الدولة التركية تدهور الوضع في جنوب شرق البلاد. بداية تم اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أُجلان في كينيا، نقل بعدها الى تركيا. بعد ذلك بسنة قامت الوحدات الخاصة بحملة تفتيش لفيلا واقعة على أطراف إسطنبول، حيث جرت معركة حامية الوطيس مع مجموعة من الكوادر القيادية لحزب الله، قُتل فيها زعيم الحزب حسين فليوغلو. وصودرت كمية كبيرة من المواد المختلفة التي تخص الحزب في إسطنبول وفي مناطق أخرى، وتم سجن مئات المُجنّدين. إلا ان هؤلاء السجناء غادروا السجن بعد مدة قصيرة، وذلك بناء على عفو عام أصدرته حكومة حزب العدالة والتنمية في ربيع هذا العام عنى أساساً أعضاء حزب العمال الكردستاني الذين أعلنوا التوبة، فإستغلته كوادر حزب الله وخرجوا بموجبه من السجن. هكذا اصبح ثلاثمائة متطرف إسلامي أحراراً طلقين.

ظِل الماضي يخيم على الحاضر

لم يُلاحق حزب الله بجدية كونه اعتُبر في عداد "المنتهي". إلا أن ضربات الإسبوع الماضي أجبرت تركيا المُرتعِبة على التنبه إلى أن منفذي هذه الضربات كانوا معروفين في مدينة بِنغول كأنصار لجماعة حزب الله وبأن أقاربهم عملوا ايضا في صفوف الحزب.
الحزب الذي وصفه المختصون "بمنظمة أشباح"، أظهر مهاراته وقدراته على العمل السري.

ويعتقد بعض المحللون أن الزعيم الحالي للحزب عيسى ألتسوي مُختفي عن الأنظار، وبأنه توعد بالإنتقام من الدولة التركية، وخطط لضربات بالإشتراك مع القاعدة، ويُعتقد أنه متواجد حالياً بشكل غير قانوني في ألمانيا وبأنه يتحرك بإسم مستعار.

بقلم ديلك زَبتشيوغلو، قنطرة 2003
عن الألمانية يوسف حجازي