عندما يتجاوز الاستياء حدوده

الحركة الإسلامية المتطرفة تمثل بالفعل تحديا خطيرا . إلا أن الجدال الدائر في ألمانيا تطغى عليه نبرة معادية للإسلام . إبرهارد زايدل يقدم هنا تعليقا نقديا على هذه المسألة.

الصورة: أ ب

​​

لقد كان قتل ثيو فان غوغ عملية وحشية : طعنا و رميا بالرصاص وتمثيلا بجسده . والآن وبعد مرور أسبوعين على الحادثة المفجعة لا يزال الرأي العام في أمستردام تحت وطأة الصدمة . وقد أصبح من الممكن أن يخامر المرء إحساس بأن هذا الهولندي المغربي الأصل قد أضفى بعدا جديدا على ظاهرة العنف السياسي في مجتمعنا الوسطي بأوروبا.

قد يكون لمثل هذه النظرة للأحداث ما يبررها في هولندا. لكن هذا الاستياء الذي يتجاوز الحد له وقع خاص غريب هنا في ألمانيا . فالألمان، في النهاية، يمثلون ما يشبه الاختصاصيين في مجال التقتيل البشري ذي الطرائق المتنوعة.

لا، ليس في فترة ما بين 1933 و 1945 فقط، بل وأيضا في ما بين 1989 و1993. فقد أظهر أغلب المواطنين الألمان لا مبالاة مذهلة حين عمد شبانهم النازيون إلى تقتيل ما يزيد عن المائة شخصا من أنغوليين وأتراك ورومانيين ويساريين ومشردين ، وذلك بحرقهم أحياء وتقطيعهم وتهشيم أجسادهم وتحويلها إلى عجين من الدماء والعظام . أو عندما حاولوا حرق العشرات من الفييتناميين أحياء. وقد استطاب مواطنون من مدينة روستوك هذه العملية الأخيرة ووجدوا فيها فرجة ممتعة للغاية، الأمر الذي جعلهم يقابلونها بالتصفيق بإعجاب أمام عدسات الكاميرات.

أوجه تشابه بين الفاشيين الجدد والإسلاميين المتطرفين

ليس هناك ما يمكن أن يبرر جريمة أمستردام. وإنه من الضروري أن تجند كل الوسائل لمعاقبة الجاني ومكافحة المحيط الأديولوجي الذي نشأ عنه . إلا أنه ، ولمواجهة حالة الهلع العامة ، يظل من الضروري أن نركز على هذه الملاحظة : ليس هناك في هذه الجريمة ما يمكن أن يعتبر بعدا جديدا للعنف . وهي ليست حجة على فشل مشروع المجتمع متعدد الثقافات أو على الطابع العدواني للإسلام في أوروبا.

إنها جريمة ذات دوافع آيديولوجية من تلك التي تكرر اقترافها مئات المرات خلال العشرين سنة الأخيرة في السويد وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا. جرائم تمت على أيدي عنصريين ونازيين جدد تتشابه رؤيتهم للعالم وصورة العدو النموذجي لديهم مع مثيلاتها لدى الفاشيين الإسلامويين.

وإذا ما كانت الآيديولوجيا القائمة على التمييز عند هؤلاء تعتمد مبررات عرقية، بينما تعتمد على مبررات دينية لدى الإسلامويين، فإنهم يظلون متحدين جميعما في الحقد على المرأة ومعاداة السامية والتمظهر الاستعراضي للذكورية ورفض الديموقراطية والتحررية والممارسة الاختيارية للجنس، وهذه ليست سوى بعض السمات المشتركة التي تجمع بينهم.

وبالنظر إلى أوجه الشبه الفكرية والوجدانية القائمة بين الفاشيين الجدد والإسلاميين المتطرفين فإنه لا يسع المرء إلا أن يتعجب للتغافل السائد في التطرق إلى هذه التشابهات . فرصيد التجارب والاستراتيجيات التي اعتمدت في السنوات الماضية لمقاومة النازيين الجدد ومجموعات اليمين المتطرف كان من الممكن لها لو جمعت أن تقدم نموذجا مفيدا في مواجهة الإسلاميين المتطرفين.

وعوضا عن إنجاز هذه المهمة الملحة، تُثار نقاشات في الأوساط العامة توحي وكأن أوروبا ستُسحق تحت أقدام المسلمين كما حصل في الماضي على أيدي قبائل الهون الآسيوية.

المسلمون على عمود التشهير

إن من يتابع الجدل والنقاشات والأصوات المتعددة التي تعالت في الأسابيع الأخيرة سيكون فريسة للخوف والقلق. ليس خوفا وقلقا تجاه تحديات الحركة الإسلامية التي تم تجاهلها طويلا هنا في أوروبا بسبب من الغفلة أو لاتكال ساذج على الله. بل لأن الأمر يتعلق خلال هذه الأسابيع الأخيرة بثبات المكتسبات التنويرية والديموقراطية الأوروبية.

هناك خليط متفجر يتم إعداده وعجنه في هذه الأيام، ومكوناته هي: الإسلام، الحركة الإسلامية، انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، المسلمون، المجتمعات الموازية، اضطهاد المرأة، نزاع الشرق الأوسط، موت عرفات، نهاية المجتمعات متعددة الثقافات، معاداة السامية المتأسلمة – الكل يوضع في طبق واحد، وإذا بالمسلمين الخبثاء والأتراك والعرب -أي جارنا- يرفعون على عمود التشهير كخطر على أمننا.

لقد طرأ تغير على ألمانيا الحالية. وخلافا لما حصل بعد عمليات الحادي عشر من سبتمبر من وقوف المجتمع المدني ضد ظهور علانية معاداة الإسلام ، فإن النبرة قد غدت أكثر حدّة في أيامنا هذه . وقد أصبحت الأجواء داخل المجتمع مطبوعة بصفة أكثر حدة بمشاعر معاداة الإسلام وبعنصرية مكشوفة ضد الأتراك والعرب.

وسائل الإعلام لعبت وتلعب دورا فعالا في هذا الأمر. فبعد الجدل والنقاشات التي تتناسب وهذا الحدث داخل الصحف ذات المستوى الجيد بدأ يتضح في أثناء ذلك كما لو أنه غدا من البديهي أن لا تتعلق المسألة بالعالم العربي الإسلامي فقط، بل وبالإنسان العربي في حد ذاته، والذي يُعد غير قابل للإصلاح ومتوحش، و بكلمة واحدة غير ملائم للحداثة.

وتبعا لذلك فإن المثقفين العرب لا يجدون لهم مكانا داخل وسائل الإعلام الألمانية كطرف محاور، وإذا ما حدث ذلك، فقد جيء بهم ليؤكدوا بؤس مجتمعاتهم. وهي لعبة غير مشرفة.

تنافر خطير في السياسة الداخلية

مثال آخر: حينما طُرح، قبل بضعة أشهر، موضوع معاداة السامية في صيغتها المتأسلمة كان ذلك أمرا مصيبا ومسألة لم تعد تقبل الانتظار. لكن كل من كان يعتقد أن المسألة ستعالج بطريقة علمية جادة، وأنه سيتم تناولها بالتحليل في أبعادها الكمية والنوعية، أُصيب بخيبة الأمل.

فلا التنظيمات المدنية ولا تلك القريبة من الأحزاب السياسية، لا ولا المؤسسات العلمية أبدت شيئا من الاهتمام بهذه المهمة البديهية. وإنه ليبدو من الواضح تماما أن التخمينات والفرضيات العمومية تخدم الغايات السياسية بصفة أفضل من الوقائع المحققة بدقة.

إن القيمة التجارية لـ"الاختصاصيين" من أمثال المستشرق (هنس بيتر راداتس)، الذي لا يختلف من حيث نظام محاججته وقاموسه اللغوي في شيء عن منشورات اليمين المتطرف، تعرف ارتفاعا في هذه الأيام. وبالنسبة لصحيفة حملات تشهيرية مثل صحيفة Die Welt، التي كرست نفسها لخدمة الحملات الصليبية على الإسلام، فإنه ليس هناك من موضوع يمكن أن يكون غامضا وضبابيا بما فيه الكفاية كي تستنكف من نشره على صفحاتها.

لكن وحتى صحف هامبورغ الأكثر جدية مثل Die Zeit الأسبوعية ، تقدم هي أيضا ، وعن طريق افتتاحيات ذات طابع افتزازي مفتعل وفقا لموقف رئيس تحريرها القائل بـ"على المرء أن يفاتح الأتراك والعرب بهذا الرأي "، مساهمتها في خلق حالة تنافر سياسي داخلي خطير.

اللغو والمبالغات في المنشورات الإعلامية

إذا ما أخذ المرء كل ما تحتويه المنشورات مأخذ الجد فستتكون لديه الصورة التالية عن ألمانيا:
هذه البلاد مأهولة بسكان من العرب والأتراك الحمقى الذين يمتنعون عن تعلم القراءة والكتابة، يزوجون بناتهم غصبا، ويجاهدون عن طريق الجرائم والتقتيل من أجل تركيز دولتهم الدينية على العالم الموازي الذي يعيشون داخله.

سياسيا، يتعلق الأمر، كما توحي بذلك المقالات الصحفية، باستنباط الكيفية الملائمة للإمساك بزمام الأمور بسرعة، أو بعبارة أخرى للتخلص من المسلمين كليا قبل أن تندلع حرب أهلية مفتوحة.

إنني، كصحافي مواظب منذ عشرات السنين على معاينة مواقع التوترات داخل المجتمع متعدد الثقافات، ولا أتوانى عن خوض معارك صحافية ضد النازيين الجدد والإسلاميين، وكمواطن أسكن في حي كرويتزبارغ ببرلين حيث أكثر من 60 بالمائة من جيراني مسلمين، أسمح لنفسي بالإدلاء بهذا الحكم: إنه لم يحدث منذ مدة طويلة أن عرفت وسائل الإعلام، من تلفزيون وصحف من المستوى الجيد، مثل هذا السيل من اللغو حول المجتمع متعدد الثقافات مثلما يحدث في هذه الأيام الأخيرة.

هذه الأجواء تذكر ببدايات الثمانينات عندما كانت النخب السياسية والإعلامية في ألمانيا تغذي وتتداول خطابا معاديا للأتراك. وللتذكير : كانت تبعات ذلك عمليات إجرام عنصرية و تهييج الشارع وخلق حالة من تسمم الأجواء السياسية الداخلية تواصلت سنوات عديدة.

إبرهارد زايدل

ترجمة علي مصباح

نشر هذا النص في صحيفة TAZ بتاريخ 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2004

إبرهارد زايدل- صحافي متعاون من برلين، ورئيس لمشروع "مدرسة خالية من العنصرية"