بريشت في حمام شرقي

دعا معهد غوته في دمشق مجموعة من الفنانين السوريين الشبان للقيام بإخراج مسرحي لقصائد الكاتب الألماني بريشت في حمام شرقي تقليدي تم ترميمه حديثا.الصحفية كيرستين هالبرغ كانت ضمن جمهور الحاضرين في إحدى هذه الأمسيات

الصورة: :كيرستين هالبرغ
مشعد من العرض في الحمام

​​

"في الأزمنة المظلمة، هل يغني الناس أيضا؟" تسأل المرأة الواقفة عند بئر حمام فتحي القديم بالعربية. "إنهم يغنون أيضا عن الأزمنة المظلمة". وفي دمشق يغني الناس فعلا، لأن الأزمنة مظلمة- وبذلك يصبح بيرتولد بريشت معاصرا.

دعا معهد غوته في دمشق إلى عرض مسرحي تقدمه فرقة "ليش" السورية. وقدمت الفرقة قصائد لبرتولت بريشت تنتقد العصر في ترجمة عربية مصحوبة بالموسيقى والإخراج الدرامي.

يقول مانفرد إيفيل مدير معهد غوته في دمشق: "كان النص راقدا لدينا في المكتبة منذ سنوات". ومن أجل التعريف بالشعر الألماني في سوريا وجذب جمهور الشباب إلى الشعر الألماني، طلب إيفيل من المخرجة السورية نورا مراد أن تختار بعض القصائد لإخراجها مسرحيا.

ويقول إيفيل: "فوجئت في البداية، عندما قامت نورا مراد باختيار عدد من القصائد السياسية لبريشت". لكن نظرا لأن العمل الثقافي مرتبط بظروف الحياة، فلا عجب أن يكون لمثل هذه المشاريع المسرحية في سوريا بعدا سياسيا. ويضيف إيفيل: "في نهاية الأمر يرى كثير من السوريين أن الزمن الحالي مظلم سواء في الداخل أو في الخارج، فحرب العراق والقضية الفلسطينية يعطيان لقصائد بريشت حضورا وقوة لا نشعر بهما في ألمانيا".

الجمهور يشارك في العرض

تأتي امرأة أخرى إلى جانب البئر :"أي أزمنة تلك التي ترى في حديث عن الشجر جريمة، لأنه يتضمن الصمت عن جرائم كثيرة جدا!"

بينها وبين الجمهور أقل من ثلاثة أمتار. يبدأ مغنيان في الغناء من مكانهما وسط الجمهور. تقول المخرجة نورا مراد أنها لا تريد أن يتفاعل الجمهور مع الممثلين: "لا ينبغي أن يجلس الناس هنا ويستهلكون ما يقدم لهم، بل عليهم أن يشاركوا بأفكارهم."

حمام فتحي الدمشقي مناسب جدا لهذا التفاعل. كراسي الجمهور اصطفت حول البئر تحت قباب حجرية عالية، والممثلون والمغنون يتحركون عبر المكان. بعد ترميمه بعناية أصبح الحمام مركزا ثقافيا وكانت أمسية بريشت هي العرض الافتتاحي لنشاطات الحمام.

وتقول نورا مراد :"عندما دخلت الحمام لأول مرة، أصبح لدي على الفور تصور عن كيفية عمل الإخراج المسرحي للقصائد". يظل البئر هو المركز يقفز الممثلون على حافته، يستندون إليه، أو يُغطسون وجوههم فيه.

تفسير جديد لبريشت

ورغم هذه البيئة الملهمة، كان تحويل قصائد بريشت إلى عرض مسرحي موسيقي تحديا لفرقة "ليش". تقول نورا مراد: " لغة بريشت مباشرة جدا، وينتج عن ذلك في الترجمة العربية جمل قصيرة معبرة، لا تتيح فرصة للقراءة ما بين السطور. لذلك كان علينا أن نعمل على خلق مستوى ثان". نورا مراد على وعي تام بأنها تقوم من خلال ذلك بتفسير بريشت من جديد.

ويرى مانفرد إيفيل أنه من الممكن للعارفين بأدب بريشت أن ينتقدوا العرض بأنه ليس على طريقة بريشت. لكن تغير الزمن والمكان يسمحان دائما برؤية جديدة للأشياء. ترى المخرجة الشابة أن مسرح بريشت لم يعد معاصرا- وبخاصة في العالم العربي، وتقول: "نشر الأفكار السياسية من على خشبة المسرح يبعث الملل في نفوس الناس، فمنذ عقود وهم لا يسمعون سوى الشعارات السياسية والعبارات الجوفاء." لا تريد نورا مراد أن تؤثر فيهم من خلال الدراما المسرحية. "يحتاج المسرح العربي إلى مزيد من الحس، ولا نحتاج إلى كثير من الكلام الفارغ."

النصوص تمس قلوب الجمهور

"ما كان، كان. الماء الذي صببته في النبيذ، لا تستطيع أن تدلقه ثانية، لكن كل شيء يتغير. بإمكانك البدء من جديد مع آخر نفس".
يدور الممثلون الثلاثة والمغنيان حول البئر ويقفون خلفه. يقول مانفرد إيفيل: "كان لهذه الأغنية الأخيرة تأثير كبير على الناس"، وقد حازت العروض الثلاثة التي قدمتها الفرقة على رضا إيفيل: "تزايد إقبال الناس على العرض من أمسية إلى الأخرى، لأن الناس سمعوا عنه من بعضهم البعض، فالحياة الثقافية في دمشق تعتمد على الدعاية الشفاهية."

وإلى جانب طلاب الفنون وطلاب معهد التمثيل والمثقفين وكبار العاملين في الحقل الثقافي كان بين الحضور أيضا سكان حي الميدان المحافظ والذي يوجد به الحمام. كانت تلك مفاجئة لنورا مراد وتقول: "لم أفكر أبدا في أن العرض سيخاطب جمهورا عريضا كهذا، وقد أتى إلي أناس من الحي بعد العرض وسألوا عن النصوص. وقالوا رغم إنهم لم يفهموا كل شيء لكن عملنا قد مس قلوبهم، وقد سررت لذلك كثيرا."

بقلم كيرستين هالبرغ، قنطرة 2004 ©
ترجمة أحمد فاروق