يوميات انتخابية مصرية بطعم الكباب والحلف بالطلاق!

خلف الطوابير الطويلة التي تراصت أمام لجان الاقتراع في أول انتخابات برلمانية يشارك فيها المصريون قلباً وقالباً، حكايات تعكس جانباً آخر من الصورة، يرويها قاض أشرف على الانتخابات، ويعلق عليها سياسي شارك بالترشح. أميرة محمد من القاهرة وهذا التقرير.



رغم الحفاوة العالمية والبهجة الشعبية التي تسود الشارع المصري بمجريات أول انتخابات برلمانية "ديمقراطية" تشهدها البلاد منذ أكثر من 30 عاماً، يتساءل البعض عما إذا كانت هذه "الديمقراطية" شكلاً فقط أم شكلاً ومضموناً. ربما يكون هناك إجماع حقيقي على بهجة المصريين وعشاق تراب هذا الوطن، من خلال الإقبال الشعبي غير المسبوق على صناديق الاقتراع، في الانتخابات التشريعية التي جرت مرحلتها الأولى متزامنة في تسع من محافظات الجمهورية.

إلا أن التشكيك في مدى قدرة نتائج هذه الانتخابات على إعطاء مؤشر واقعي لتوجهات الناخبين بقي محل جدل بين البعض، حتى ممن شاركوا في الترشح والانتخاب. ففرحة المصريين بالتصويت لم تحل دون نقاشات ساخنة حول ما إذا كانت هذه الانتخابات تعبر فعلاً عن إرادة المصريين. الإجابة الفورية تأتي على لسان الغالبية : "طبعا لأنها نزيهة، وديمقراطية، وغير مزورة".


أما الناشط السياسي زياد العليمي، المرشح على قائمة "الكتلة المصرية"، المتوقع لها حصد ثاني أكبر نسبة مقاعد في البرلمان بعد حزب "الحرية والعدالة" التابع للإخوان المسلمين، فيقول لدويتشه فيله عبر الهاتف من موقعه في لجنة فرز الأصوات: "ربما لن تتعرض نتائج هذه الانتخابات للتلاعب بنفس القدر الذي تعرضت له في السنوات الماضية، إلا أنها تعرضت بلا شك لانتهاكات تتمثل في تزييف وعي البسطاء".

تزييف الوعي بدل تزوير الأصوات

الصورة د ب ا
من المتوقع أن يحظى الإسلاميون، وخاصة الإخوان المسلمون، بأكبر عدد من مقاعد البرلمان

​​وعن كون الصناديق لا تتعرض للتزوير أيضاً لا يجيب على السؤال: هل ستعبر هذه الانتخابات فعلاً عن إرادة المصريين؟. الواقع يقول إنه إذا كنا نتحدث عن انعكاس "إرادة" المواطنين على نتائج الانتخابات، فلابد أن تتوافر هذه "الإرادة" أولاً قبل التصويت. فإلى أي مدى يمتلك البسطاء، ممن لا تتاح لهم رفاهية القراءة والاطلاع والبحث والتنقيب، تطلعات سياسية أرادوا التعبير عنها عبر صناديق الاقتراع؟

هذا التساؤل يجيب عنه وكيل نيابة شارك في الرقابة على أحد لجان الانتخاب في دائرة بولاق بمحافظة القاهرة، ضمن الإشراف القضائي. ولحساسية موقعه تحدث لدويتشه فيله شرط عدم ذكر اسمه. وذكر أن اللجنة التي أشرف عليها هذا القاضي مخصصة للسيدات، وتقع في حي أبو العلا، الذي يعتبر أحد أكثر الأحياء الشعبية فقراً في بولاق. الجانب المشرق من الصورة هو أن نسبة الإقبال فاقت كل التوقعات، أما المؤسف فكان افتقار الغالبية العظمى لهؤلاء الناخبات إلى أي إرادة أو رغبة في قائمة أو مرشح بعينه.

ويضيف القاضي: "إحدى الناخبات دخلت اللجنة بحماس. سيدة في منتصف العمر، بسيطة في ملبسها وهيئتها. أمضت وراء الحاجز أكثر من 10 دقائق تضرب أخماساً في أسداس، قبل أن يعلو صوتها لتناديني: تعال يا بني وساعدني كي أختار". هكذا صاحت السيدة بعفوية، ولما شرح لها القاضي بأن عليها اختيار قائمة من هذه الورقة، ومرشحين من تلك، قالت برجاء ونفاد صبر: "اختر أنت لي. يبدو عليك أنك رجل طيب، وأنا لا أعرف أي أحد فيهم".


الإرهاب بالكباب

ويمضي القاضي ضارباً المثل بواقعة أخرى، قائلاً: "فوجئت بسيدة تدخل اللجنة، وتصر على الإعلان علناً بأنها لن تختار سوى جميلة إسماعيل". وبالاطلاع على بطاقة هويتها اتضح أن اسمها أيضاً جميلة إسماعيل. حول ذلك يقول القاضي: "نظرت إليها مستغرباً، فأومأت برأسها، مؤكدة بثقة أن هذا هو سر اختيارها".  وبطبيعة الحال، فشلت كل محاولات الموظفين لإقناعها بشتى الطرق بأن عليها اختيار قائمة وشخص آخر، إلى جانب جميلة، كي لا تبطل صوتها بيدها، فأبت إلا أن تعطي صوتها فقط لجميلة إسماعيل. ويضيف القاضي: "وضعت جميلة، وبمنتهى الاعتزاز، بطاقتها الانتخابية الباطلة في الصندوق، وخرجت من اللجنة خروج الأبطال".

الصورة د ب ا
ينتقد البعض إجراء الانتخابات البرلمانية في وقت غير مناسب سياسياً

​​سيدة ثالثة كانت أكثر عصبية، ولم تطق الكثير من محاولات القاضي وموظفي اللجنة إفهامها بما ينبغي عمله، فقالت بتأفف: "أين تريدني أن أضع علامتي؟!". وللأسف، هناك كثيرون مثلها ممن قالوا صراحة إنهم جاءوا خوفاً من الغرامة، وربما لنيل نصيبهم من علب الكباب، التي لم يكتف أحد مرشحي الدائرة بتوزيعها على الناخبين، وإنما أراد أيضاً توزيعها على موظفي اللجان، متحججاً بقوله: "هذا حيي، وعلي الطلاق لن أترككم بدون غداء"، على حد قول القاضي.

وإذا كان موظفو اللجنة، الذين يتقاضون رواتب من الدولة، قد غضبوا من قيام القاضي بطرد المرشح وهديته خارج اللجنة، فماذا بضعاف النفوس وخواة الجيوب من ناخبي تلك الأحياء، الذين قد لا يجد الكثيرون منهم ثمن غدائه.


"الانتهاك بالكذب والتضليل"

من ناحيته ينتقد زياد العليمي أن "الانتخابات جرت في وقت غير مناسب على الإطلاق. لم يأخذ الناس وقتهم للتعرف على برامج الأحزاب. التيارات الإسلامية استغلت ذلك أكبر استغلال، فعملت على تزييف وعي البسطاء، وهو الوعي السياسي الغائب أساساً منذ سنوات. أوهمتهم بأن الليبراليين مسيحيين، ومارسوا الكذب والتضليل، وأطلقوا حولي شخصياً شائعات بأني مدمن خمور. باختصار لعبوا كل الألعاب القذرة".

هذه النماذج وغيرها امتلأت بها لجان الانتخاب، لاسيما في المناطق الفقيرة، جنباً إلى جنب مع النماذج المشرفة. هم طبقة مطحونة لم تؤرقها يوماً إلا لقمة العيش، والجميع يعلمون أنهم نتاج عقود من التجهيل والتغييب السياسي من قبل نظام احترف محو "إرادة" المواطنين، بقدر إتقانه تزييف بطاقاتهم الانتخابية.



أميرة محمد – القاهرة
مراجعة: ياسر أبو معيلق

حقوق النشر: دويتشه فيله 2011