حوار عبر "الثريا" بين شاعرين عراقيين

طيلة الأشهر الماضية وأنا أفكّر بجملة للكاتبة الألمانية أرمغارد كوين، جملة قرأتها عام 1982: "لم يعودوا يحملون الصلبان المعقوفة، لكن فيما عدا هذا لم يتغيّر شيء..." حوار بين شاعر عراقي في المنفى وصديقه في بغداد

حوار عبر "الثريا" بين شاعرين عراقيين

خالد المعالي

طيلة الأشهر الماضية وأنا أفكّر بجملة للكاتبة الألمانية أرمغارد كوين، جملة قرأتها عام 1982: "لم يعودوا يحملون الصلبان المعقوفة، لكن فيما عدا هذا لم يتغيّر شيء..." وذلك في رسالة لها كتبتها في مدينة كولونيا، حيث كانت تقيم، الى هرمان كستن بتاريخ 10/10/1946... اليوم لا يبدو أن الحالة العراقية تختلف كثيراً عن الحالة الألمانية آنذاك... إذ منذ يوم 9/4/2003 ونحن نطرح على أنفسنا العدد الهائل من الأسئلة... فنحن نريد أن نعرف حقاً طبيعة الوضع في العراق الآن... فالميديا العربية بشكل عام معادية للعراقيين وتدغدغ مشاعر عامة العرب والمسلمين... معتمدة تهويل الأحداث الصغيرة... وتهميش معاناة العراقيين... بل أن كابوس المقابر الجماعية لم يحظ باهتمامها الا بشكل هامشي... وكأن مذبحة العراقيين هذه لا تعني شيئاً...

امكانية الاتصال شبه معدومة... وهي ان حدثت فهي تكون بصورة مفاجأة ولا تعطي مجالاً لكي نكوّن صورة معقولة عن الأوضاع، ويتحكم بها بشكل عام الإرباك... نظراً لأن المتصل إما أن يكون صديقاً قديماً لا نعرف كيف نتحدث اليه أو شخص لا نعرفه من قبل. فالحديث سيكون مجرد تبادل تحيات وتهئنات.. الأعداد المتفرقة من الجرائد التي صدرت هناك ووصلتنا، هي كذلك مجرد أعداد تجريبية! وها هو صديق عراقي يتصل من الإمارات العربية المتحدة، يخبرني بأنه يمكنني الاتصال الآن بصديقي الشاعر حسين علي يونس ببغداد، كتبت الرقم وفكرت هنيهة. فحسين الذي لم ألتقه أبداً، يراسلني من بغداد منذ عام 1994 كما أعتقد، وقصائده التي كان يرسلها لي أثارت اهتمامي، كما أثارت اهتمام الآخرين بعد نشرها، لهذا نشرت له بعضها في أول عدد من مجلة "عيون" التي نصدرها هنا، وذلك عام 1995، وكذلك في الأعداد التالية، وهكذا أضحى وبصورة غير رسمية أحد العاملين مع المجلة ببغداد، بما تحمله هذه العلاقة من خطورة، فكم مرة تعرض للإعتقال التعسفي والضرب والإهانة بسببها. ديوانه الشعري الأساسي يصدر هنا خلال هذه الأيام، وآخر مرة اتصلت به، كانت قبيل بداية الحرب الأخيرة، بأيام، كانت أمه على الطرف الآخر، قالت لي بجفاء، بأنه غير موجود ولا تعلم أين هو، وهو أصلاً لم يعد يسكن هنا! حاولت الاستفسار بلطف، لكني صدتني وأغلقت التلفون!

واليوم، ها هو التلفون يدق، كان المتحدث صديق له، حياني بفرح ومودة، فرح فعلي لم نكن نعرفه أبداً في اتصالاتنا السابقة التي كانت واجمة وخائفة وملجومة، أخذنا راحتنا في شتم صدام وعهده، وضحكنا بصوت عالٍ. فقد كان مطارداً طيلة الأسابيع التي سبقت الحرب، أجهزة الأمن اعتقلت انتقاماً أخوته الآخرين، ولم يروا الحرية الا بوصول قوات التحالف الى بغداد...
- متى تأتي؟ سمعت بأنك سوف تكون هنا خلال اسبوع! نشرنا لك الكثير من القصائد هنا! أحوالنا رائعة... لا تصدّق... لم نعرف هذا من قبل! صحافة حرة، نقاشات بأصوات عالية...
- الحالة الأمنية؟
الطرقات السريعة، السفر داخل البلاد... في النهار كل شيء تمام... لكن هناك خطورة في الليل...
- هل القطار بين البصرة وبغداد شغّال؟
بالطبع شغّال...
- وتلك الشخصيات الثقافية المزعومة...؟
بعضهم اختفى عن الأنظار... بعضهم تحول الى الدين، بعضهم نجح في العبور من هذه الضفة الى تلك الضفة.
كيف؟
آخر سكرتير لعدي صدام حسين، هو الآن رئيس جريدة يصدرها رجل دين! فلان، الصحافي المتسلق، كاتب التقارير...
- نعم، ما به، هل اعتقل؟
لا، بل هو الآن رئيس تحرير جريدة يصدرها أحد أقطاب النظام السابقين، والذي انشق قبل سنوات قليلة جداً! وهل تتذكر قريبته الشاعرة المزعومة، والتي لم تترك مناسبة عيد ميلاد صدامية إلا وقردحت خلالها "قصيدة"؟
- نعم، ربما، ما بها؟
هي اليوم مسؤولة عن مجلة "ثقافية"!
- لكن العراق اليوم، قلت له، كما نتمنى مفتوح للجميع! الموهبة في الشعر مثلاً، يمكن أن تعطيك مكانك الصحيح، بعيداً عن كونك تفكر بهذه الطريقة أو بتلك الطريقة، أما المواهب الأخرى، فهي ستعطيهم ما يحتاجون اليه! إعادة البناء تحتاج الى فورات كثيرة، بل لا بد أن يطفوا هؤلاء الذين ذكرتهم فوق السطح الآن... ذاكرة الناس قصيرة بشكل عام... ولكن ليس بالشكل الذي يسمح لهؤلاء بالتواجد من جديد في الواجهة... هذا اذا صار عندنا حقاً مجتمع مدني ودولة قانون... كما نعد أنفسنا ويعدنا الآخرون... والأخطر من هذا هو هؤلاء عشاق السلطة، فهي تبدو مغرية بشكل لا يطاق، ولديها جاذبية قوية تدع البعض يترك كل شيء وراءه لكي يقطع المسافات ويكون قريباً من قبرها!

- والمتحف، المكتبة العامة....؟
كل ما سمعته فبركات، فالسرقة كانت قائمة على قدم وساق منذ عام 1991، والسرقة الأكبر حدثت قبل الحرب الأخيرة بشهور! عليك أن لا تنسى أن صدام حسين وعمه كانا يسرقان بيض الدجاج، وهما لم يتركا هذه العادة!
- هناك بعض الذين كانوا هناك حينما حدثت أعمال النهب؟
أعمال النهب حدثت في كل مكان، وفيها اختلط الحابل بالنابل، والغريب ان الذين كتبوا عن عملية النهب، كأنهم شاركوا فيها والذين كانوا هنا، كما تقول، صار لهم سنوات وهم يتاجرون خارج العراق بالمخطوطات والعملات العراقية القديمة المسروقة من المتاحف! كل العراقيين يعرفون هذا!
- غريب.
لكن الأوضاع تتحسن تدريجياً الآن، وهذا شيء نلمسه يومياً!
- هل يمكن ارسال البريد لكم؟
لا، فحتى صندوق بريدي احترق في دائرة البريد، نتيجة لعمليات النهب والحرق!
- وهل لديكم عرق ما يكفي؟
- نعم... نحن بانتظاركم، ولا تهمكم هذه التقارير المكبرة أكثر من اللازم عن هؤلاء المعممين هنا أو هناك! الحياة اليوم في العراق، رغم كل هذه الكوابيس التي ذكرتها لك، لها طعم آخر... كل يوم نستيقظ ونحن غير مصدقين... فـ"القائد الضرورة" لم تعد له ضرورة.

خالد المعالي شاعر وناشر عراقي مقيم في ألمانيا
صدرت الترجمة الألمانية للمقال في صحيفة براينر تسايتونغ
يونيو/حزيران 2003