قراءة في الأحداث الأخيرة

هل أصبحت تونس أرضا مهيأة لاحتضان مجموعات راديكالية مرتبطة بتنظيم القاعدة؟ سؤال فرض نفسه بعد الاشتباكات المسلحة التي دارت بين قوات الأمن والجيش من جهة ومجموعة مسلحين إسلاميين. صلاح الدين الجورشي

صورة للرئيس التونسي زين الدين بن علي، الصورة: أ ب
صورة للرئيس التونسي زين الدين بن علي

​​هل أصبحت تونس أرضا مهيأة لاحتضان مجموعات راديكالية مرتبطة بتنظيم القاعدة؟ سؤال فرض نفسه بعد الاشتباكات المسلحة التي دارت بين قوات الأمن والجيش من جهة ومجموعة مسلحين تتخذ من "الجماعة السلفية للدعوة والقتال " الجزائرية مثالا يحتذى به. صلاح الدين الجورشي

اللجوء إلى العمل المسلح ظاهرة محدودة جدا في تاريخ تونس المعاصر. ولا يعود ذلك فقط إلى خوف التونسيين من الفوضى وانعدام الأمن إلى جانب قدم الدولة وترسخ تقاليد الخضوع لها، وإنما أيضا لجنوح يكاد يكون متأصلا لدى النخب التونسية والأوساط السياسية نحو النضال السلمي واعتباره الأسلوب الأفضل للاحتجاج وتغيير الأوضاع.

اختارت الحركة الوطنية منذ نواتاها الأولى النهج الإصلاحي، من خلال تشكيل الأحزاب، والمطالبة بالانخراط في المؤسسات وتأسيس شبكة من الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني. وأضاف إلى ذلك الزعيم بورقيبة أسلوب التظاهر السلمي، وتجسير العلاقة مع الأوساط المناهضة للاستعمار داخل فرنسا وفي العالم الغربي. وحتى عندما لجأت قيادة الحزب الدستوري إلى تشكيل مجموعات مسلحة، تم ذلك لغرض محدود في الزمن والوظيفة بهدف الضغط على الحكومات الفرنسية وجرها إلى فتح باب المفاوضات.

أما بعد الاستقلال، فإنه خلال الخمسين سنة الماضية لم ترفع أطراف معارضة السلاح في وجه الدولة إلا في مناسبتين. نتجت الأولى عن الخلاف الحاد الذي حصل بين الحبيب بورقيبة ومنافسه داخل الحزب الدستوري صالح بن يوسف. أما الحالة الثانية فقد حدثت في 1980 عندما لجأت مجموعة من القوميين الناصريين، بدعم من نظام الرئيس بومدين إلى السيطرة بالسلاح على مدينة قفصة بالجنوب التونسي، معلنين الثورة المسلحة ضد الرئيس بورقيبة.

تونسيون في خدمة " القاعدة "

هذه الخلفية التاريخية تؤكد أن العنف السياسي ليس فقط أمرا بقي محدودا واستثنائيا في تونس المعاصرة، ولكنه اعتبر أيضا أسلوبا مستهجنا ومرفوضا من قبل عموم المواطنين والتيارات السياسية والأيديولوجية.

الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، الصورة: أ ب
الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة

​​شكلت عملية جربة، التي استهدفت المعبد اليهودي وأدت إلى قتل عدد من السواح الألمان، مفاجأة قاسية و" غير مفهومة " للرأي العام التونسي. وإذ بقيت هذه العملية معزولة، إلا أن ذلك لم يقلل من خطورة ظاهرة العدد الكبير نسبيا من الشبان التونسيين الذين نجح تنظيم القاعدة في استقطابهم. ولم يبق هؤلاء مجرد عناصر قاعدية، وإنما تحولوا بسرعة إلى كوادر رئيسية.

فالصحفيان المزوران اللذان انتقلا إلى أعالي الجبال القريبة من مدينة " مزار شريف " الأفغانية، وأقدما على اغتيال القائد شاه مسعود، كانا يحملان الجنسية التونسية. وعندما كان الطائرات الحربية الأمريكية تقصف كهوف منطقة " طورا بورا "، كان من بين المحاصرين ورفقاء أسامة بن لادن عدد من المقاتلين التونسيين.

ولما تناثرت جثث ركاب قطارات مدريد اكتشف الشرطة الأسبانية أن أحد المدبرين لتلك الجريمة طالب تونسي.

وقد شهدت السنوات الثلاثة الأخيرة اندفاعا لافتا للنظر لعدد متزايد من الشبان التونسيين نحو الالتحاق بالجبهة العراقية، مرورا بالجزائر ثم سوريا أو الأردن. وقد سلمت دمشق عددا من هؤلاء إلى السلطات التونسية، التي زجت بهم في السجون وأخضعتهم لمقتضيات قانون مكافحة الإرهاب، رغم خلو ملفات الكثير منهم من أدلة قانونية.

موجة تدين في مناخ متوتر

في هذا السياق الإقليمي والدولي، شهدت تونس في فترة قياسية موجة تدين غير مسبوقة، شملت كل الأجيال، واخترقت جميع الأوساط. وتجلى ذلك في إقبال كبير على أداء الصلاة في المساجد. وتحول مئات الآلاف – حسب بعض التقديرات – من الفتيات والنساء إلى لبس أنواع مختلفة من أنماط الحجاب، بما في ذلك وضع النقاب.

وقد شكل ذلك صدمة قوية للنخب العلمانية من جهة والسلطة السياسية من جهة أخرى، التي ظنت بأن سياسة " تجفيف المنابع " التي نفذتها منذ مطلع التسعينات قد أبعدت شبح التطرف الأصولي عن تونس نهائيا. وبدل أن تدرس الظاهرة في عمقها ويفتح المجال للخبراء حتى يحددوا الأسباب والأبعاد المختلفة، تم اللجوء بسرعة ومن جديد إلى المعالجة الأمنية.

نحو تأسيس " سلفية جهادية محلية "

في ظل تلك الأجواء المشحونة إقليميا، والمتكلسة محليا نتيجة رفض السلطة حتى مجرد الانفتاح على النخب السياسية العلمانية، وعدم التفاعل مع الأيدي الممدودة لها والمطالبة بالإصلاح والحوار، انطلقت بعض العناصر المتأثرة بأفكار "السلفية الجهادية" التي تعتبر " القاعدة " عنوانا رئيسيا لها، تفكر في كيفية اختراق الجدار الأمني الذي يسيج المجتمع التونسي.

الغريبة في جربة بعد الإعتداء في أبريل/نيسان 2002، الصورة: ا ب
الغريبة في جربة بعد الإعتداء في أبريل/نيسان 2002

​​وكان أقرب محضن لذلك جهتان: "الجماعة السلفية للدعوة والقتال " الجزائرية، و" الجماعة الليبية للقتال ". لكن هذه الرغبة التي تولدت لدى عدد من التونسيين جاءت متأخرة كثيرا. فالجماعة الجزائرية تعيش منذ فترة أزمة هيكلية بعد أن تخلت بقية التنظيمات المسلحة عن العنف، وقبلت بصيغة المصالحة التي اقترحها الرئيس بوتفليقة.

كذلك الشأن بالنسبة للجماعة الليبية، التي وجدت نفسها أيضا في مأزق، مما جعلها تقبل العرض الذي تقدم به نجل العقيد القذافي " سيف الإسلام "، حيث يدور الحوار بينهما منذ اشهر.

وأمام هذه المتغيرات، واصلت النواة التونسية استعداداتها التنظيمية والأيديولوجية والعسكرية للشروع في القيام بعمليات " نوعية " تفاجأ بها النظام والمجتمع. لكن يقظة الأجهزة الأمنية التونسية، إضافة إلى التنسيق الأمني بين دول المنطقة وكذلك أمريكا والأجهزة الأوروبية قد أسهما في الإجهاز على المجموعة قبل أن يصلب عودها.

انتصار أمني يفتقر للشروط السياسية والثقافية

الانتصار الأمني الذي حققته السلطة على أول محاولة جماعية لتأسيس " تنظيم موال للقاعدة "، لا يعني زوال الخطر، أو نفي احتمال وجود "خلايا نائمة".

فما حققته هذه المجموعة في أشهر، أمر لا يستهان به في بلد يضرب به المثل في التأطير الأمني، ويكاد يستحيل فيه النشاط السري بمختلف أشكاله. فالمناخ الثقافي والسياسي والاجتماعي في تونس أصبح في السنوات الأخيرة يحتوي على بعض الشروط المساعدة على ولادة جماعات العنف الديني.

لقد توفرت القابلية الفكرية والنفسية لتبني الخطاب المزدوج القائم من جهة على رفض الغرب والنظام الدولي باعتباره صنيعة " اليهود والنصارى " والمرتكز من جهة أخرى على البعد التكفيري الذي يسحب الشرعية الدينية من السلطة بدرجة أولى ومن المجتمع إذا لم يتب ويتخلى عن ولائه للدولة الكافرة والظالمة.

حصل في تونس ما لم يكن في حسبان البعض ودخلت البلاد مرحلة مواجهة " الإرهاب الحقيقي ". وبذلك تجد السلطة والنخبة نفسهما في وضع أكثر تعقيدا. أما السلطة فقد بقيت سنوات طويلة وهي تؤمن بمثل شعبي تونسي " اقطع الرأس تنشف العروق "، وقد فعلت ذلك لكن الرؤوس تعددت والجذور تجددت. أما النخبة، فهي تجد نفسها غير مسلحة بالمعرفة والخبرة المطلوبة، إضافة إلى كونها محرومة من أدوات المشاركة الفعلية في القرار والمعالجة.

صلاح الدين الجورشي
حقوق الطبع قنطرة 2007

صلاح الدين الجورشي كاتب وصحفي من تونس.

قنطرة

إسلاميون ويساريون: من العداوة إلى العمل المشترك؟
هناك محاولات في تونس لتأسيس جبهة سياسية تضم اتجاهات إسلامية وليبرالية ويسارية. فهل تنجح المبادرة في تجاوز تراث شائك من الصراع والشكوك والرفض المتبادل بين الإسلاميين واليساريين؟ بقلم صلاح الدين الجورشي

الإسلام السياسي
ما هي التطورات التي تشهدها الحركات الإسلامية؟ ما هو الموقف الذي تتبناه من استخدام العنف؟ كيف تتعامل أوربا والمانيا بالذات مع هذا التيار؟ صحفيون وباحثون يتناولون في مقالاتهم وتقاريرهم ظاهرة الإسلام السياسي من جوانب مختلفة