''سادة'' و''امخطط''......الكود السري للثورة الليبية

بعد سقوط نظام القذافي أخذت الثقافة الشعبية في ليبيا، التي قوامها اللغة العامية وأدواتها الكتابة على الجدران ومن وسائلها الهواتف المحمولة ومواقع الانترنت تحتل المشهد الليبي العام بكل أطيافة وتوجهاته. الكاتب الليبي المعروف مصطفى الفيتوري يستعرض بعض المفردات اللغوية الشعبية ويقدم قراءة اجتماعية لغوية وسياسية لها.

 

شعبية "الربيع العربي" أصيلة وظهرت منذ بداية الانتفاضة الأولى في تونس متجلية في نوعية الأفراد الذين نزلوا إلى الشوارع بغض النظر عن دوافعهم ومن دفعهم وافتقادهم للقيادة، محركهم في الغالب الغبن وسنوات الظلم. وتميزت غالبية الجموع التي تظاهرت بأنتمائها للطبقات الاجتماعية المهمشة من محدودي التعليم والثقافة والدخل أيضا. ولهذا لا غرابة في أن تبرز على المشهد العام نوع من الثقافة الشعبية بدأت تتشكل قوامها اللغة العامية وأدواتها الكتابة على الجدران ومن وسائلها الهواتف المحمولة ومواقع الإنترنت المتاحة بلا قيود تذكر لتصيغ أفكارها وعباراتها ولتصبح جزءا من حياة الناس.

وبالنظر إلى حقيقة أن الغالبية العظمى من الذين تظاهروا أو قاتلوا كما في حالة ليبيا مثلا هم من محدودي الثقافة والتعليم وبعضهم من الفاشلين في حياتهم عموما، فليس مستغربا أن تأتي التعابير والجمل بالطريقة التي أتت بها: نصفها أخطاء إملائية ونصفها الآخر متناقض أو تافه أو حتى ملتبس المعنى في أحسن الأحوال ولكنه يظل تعبيرا مباشرا عن صوت الناس يصل بسهولة إلى وجدان الملايين.

شوارع المدن كمعارض

الصورة دويتشه فيله
جداريات ليبيا.... ذاكرة فنية وتاريخية للثورة الليبية

​​وقد كانت شوارع المدن في تونس والقاهرة وطرابلس وغيرها مسرحا متنقلا يتجدد يوميا عبر كتابات باللهجات العامية وما تزخر به اللغة المحكية من مفردات يصعب أحيانا نقلها إلى العربية الفصحى. وباتت تلك اللغة تشكل منهجا ثقافيا تميز بسيطرتهعلى الحديث اليومي للناس وجدران المباني في الشوارع والأزقة، معبرا عن أحاسيس العامة بدون وعي حقيقي لمعنى وأثر مستفيدا من التقنية وخاصة الرسائل القصيرة في الهواتف المحمولة والشبكات الاجتماعية الإفتراضية مما جعله ينتشر كالنار في هشيم السلطة.

وتحتل شوارع وميادين طرابلس، العاصمة الليبية، المرتبة الأولى من بين كل العواصم العربية التي ثارت على حكامها من حيث عدد الكتابات والرسومات الساخرة وتنوعهاا فيما بدأ وكأنه رد آخر على نظام العقيد القذافي الذي كانت مقولاته ومقتطفات من كتابه الأخضر تحتل أسوار المباني العامة وتقاطعات الشوارع ولوحات الإعلانات على الطرقات. وبدل العبارات التحريضية التقليدية من قبيل يسقط النظام أو يسقط الدكتاتور ظهرت عبارات مفعمة بروح النكتة والسخرية وبساطة الصورة رغم تعقيدات المشهد العام فور سقوط النظام.

كوميديا سوداء


واحتلت طرابلس أيضا مرتبة متقدمة في محتوى ما يٌكتب على الجدران حيث تميز بالقسوة والسخرية السوداء ولكن ما يميزه أكثر هو رداءة الخط عكس مصر مثلا)و ركاكة اللغة وكثرة الأخطاء الإملائية حتى صارت شوراع المدينة عبارة عن نصوص مبتورة وكلمات متقاطعة أكثر منها تعابير مكتملة! ويستخدم كل من طرفي الرأي عبارات عامية تعكس وجهة نظرهم أكانت مؤيدة للنظام السابق أو ما زالت تتعاطف معه او تلك التي تؤيد "الثورة" والإطاحة بالنظام مع أن الأولى بدات نادرة جداــ في مؤشر على غياب حتى حرية التعبير الشعبي العفوي!

ويصف أنصار "الثورة" في ليبيا أنصار النظام السابق بـ"الطحالب" ويتم تأنيث الكلمة فيقال للمرأة "طحلبة أو طحلوبة" في حين يرد عليهم هؤلاء بكلمة "جرذ" ــوبدأ مؤخرا تأنيث الكلمة فيقال للمرأة "جرذة"ــ و "جرذان " للجمع وهو ذات المصطلح الدي وصف به الراحل القذافي معارضيه ممن خرجوا إلى الشوارع منادين بسقوطه. والحقيقة أن الوصف جاء من واقع أن أغلب المظاهرات التي كانت تخرج في طرابلس بالذات في بداية الثورة كانت تنتظم ليلا.

أما في الأحاديث اليومية وحين تلبتس هوية شخص أمام شخص آخر ويحتار في موقفه أكان مؤيدا أو معارضا يتم السؤال باستخدام كلمة "سادة" ويقصد بها اللون الواحد وتشير إلى علم النظام السابق وهو الأخضر الصافي أو كلمة "امخطط" وهي عامية ليبية تعني تعدد الألوان في إشارة إلى علم "الثوار" الثلاثي الألوان. وقد كانت الكلمتان عبارة عن كود سري في بداية الأحداث للتعرف على هوية الآخر. في حين يوصف من يحاول الاستفادة من الوضع الحالي والتخلي عن موقفه السابق بأنه متسلق. أما في وصف العقيد القدافي نفسه فقد زخر القاموس الشعبي الليبي بالكثير من المفردات أشهرها كلمة "شفشوفة" و "أمشفشف" وهي كلمة عامية ليبية تعني الشعر الطويل غير الممشوط ! ولكن الملاحظ أن الكلمة لا تستخدم في صيغة الجمع أبدا!

كلمة "تكبير

د ب ا
الجداريات الجديدة حلت محل جداريات القذافي التي عجت بها الساحات والشوارع

​​"في مرحلة مابعد سقوط النظام وفقدان الأمن أخدت كلمة "تكبير" تشغل حيزا كبيرا في أحاديث الناس والكلمة تصف الثوار لأنهم كانوا يكبرون في المعارك وأمام وسائل الإعلام في المظاهرات ــ وقد سقطت طرابلس بالتكبير قبل أن تسقط بالرصاص والمدافع. إلا أن للكلمة معنى (عامي) مليئا بالنقد والسخرية ويعني السرقة والسطو. وأجمل صورة تم استخدام الكلمة فيها بهذا المعنى هو رسم ساخر ظهر فيه رجلان أحدهما يركب سيارة فارهة فيسأله الآخر قائلا: اشتريتها أم تكبير فيرد عليه بقوله "تكبير" والمقصود هنا أن الرجل استولى على السيارة! وكدلك حال كلمة "تمشيط" وهو مصطلح عسكري يعني تأمين المكان بعد الاستيلاء عليه، إلا أنها تستخدم لٌلإشارة إلى سرقة البيوت خاصة أثناء عمليات التفتيش التي يقوم بها "الثوار" للمنازل، حيث يقال في اللهجة العامية "جونا الثورا ومشطو الحوش وما خلوا فيه حاجة"؛ أي جاءنا الثورا وسرقوا كل شيء في البيت! وقد كثرت أحداث السرقة والنهب من قبل المليشيات المسلحة بهذه الطريقة أكانت من "الثوار" أم من محترفي السرقة والمعنى واحد تقريبا!

ولا يتم أبدا أستخدام "ثوار" في المفرد ولا في المؤنت كما لا يتم أبدا أستخدام مؤنت كلمة "تكبير" فلا تسمع أو تقرأ أبدا كلمة "ثائرة" ولا كلمة "تكبيرة" مثلا لوصف مؤيدات "الثورة" من النساء وربما يٌفسر الأمر على خلفية هيمنة الثقافة الذكورية في المجتمع الليبي وإهمال دورالمرأة مع أهميته. وغياب كلمة "ثائر" وربما مرده إلى جماعية العمل، إلا أن أغلب الظن هو أن السواد الأعظم من الناس (فئة الشباب بالذات) لا تعرف مفرد للكلمة أصلا بسبب تردي التعليم وضحالة الثقافة!

وتنال مفردات من قبيل "ازلام النظام" و"فلول النظام" نصيبهما في الخطاب العامي في ليبيا ولكن كلاهما يستخدمان في أحاديث سياسية ذات طبع جاد نوعا ما ولكن في أحاديث العامة من الناس ليس لأي من الكلمتين مفرد ولا مؤنث. وأحد أسباب ذلك قد يكون أن مفرد كلمة ازلام هو "زلمة" و"زلمة" لا أصل لها في العامية الليبية، بل هي شامية الأصل. أما غياب مفرد كلمة "فلول" وهي فل (بفتح الفاء وضم اللام) يعود إلى الجهل بمفرد الكلمة مع وجوده وصحته لغويا (في العربية الفصحى) وأقرب نظير له في العامية الليبية هو فٌل (بضم الفاء) وهو نوع من الورود تٌنظم على هيئة قلائد للعرائس والعرسان وتشتهر بها طرابلس وخاصة ميدان الشهداء على الشاطئ ولكن استخدام الكلمة كان سيعطي معنى إيجابيا غير المراد منه!

أما على صعيد الرسومات الساخرة فإن أكترها إثارة للانتباه اثنان: الأول يظهر العقيد الراحل كطفل في فمه "بزازة" أطفال وكتب تحتها "القذافي طفل لم تربه أمه" كرد على عبارة مشهورة في الكتاب الأخضر تقول "الطفل تربيه أمه". والآخرى لوحة ساخرة تظهر الرجل كليبي أصيل (من خلال زيه الليبي) ولكن على قبعته تظهر النجمة السداسية الإسرائيلية في محاولة تأكيد أن العقيد الراحل معمر القدافي من أم يهودية في تناقض واضح مما يٌشير إلى ضحالة ثقافة الرسام ومحدودية موهبته!

وليس هنالك جدران محددة للكتابة أو الكلاشيهات الساخرة مقارنة بشوارع القاهرة أو تونس، مما جعل شوارع وميادين المدينة ككراسة التلميذ الغبي ملئية بكل غث وسمين ويصعب تمييز أي منهما كما يصعب أحيانا قراءة ما كٌتب نظرة لازدحام المقولات وتعدد ألوانها وهذا طبعا لا يلغي عددا غير قليل من اللوحات الجميلة والمعبرة في آن معا!

 

 

مصطفى الفيتوري

مراجعة: هشام العدم

حقوق النشر: قنطرة 2012

 مصطفى الفيتوري أكاديمي وصحفي ليبي مستقل حائز على جائزة سمير قصير لحرية الصحافة عام 2010