الهروب من روتين الحياة اليومية إلى عالم الأحلام

في مقاهي العاصمة البريطانية يتربع الشباب على وسائد وثيرة ويدخن النرجيلة ويستمع لنغمات موسيقى شرقية. لكن بينما تداخلت عناصر الموسيقى العربية في أجواء الأندية يبقى العرب محصورين في الأطر المنغلقة لمجتمع الجاليات. تقرير توماس بوركتالر

إحدى الإكليشيهات عن الشرق، عبد شركة الشكولاتة الألمانية زاروتي عام 1918
إحدى الإكليشيهات عن الشرق، عبد شركة الشكولاتة الألمانية زاروتي عام 1918

​​في مقاهي العاصمة البريطانية يتربع الشباب على وسائد وثيرة ويدخن النرجيلة ويستمع لنغمات موسيقى شرقية. لكن بينما تداخلت عناصر الموسيقى العربية في أجواء الأندية الحديثة يبقى العرب محصورين في الأطر المنغلقة لمجتمع الجاليات. تقرير توماس بوركتالر

أعواد البخور تضفي رائحة طيبة على الجو كما أن الأضواء الخافتة تضفي عليه دفئا حالما. مصدر الموسيقى أقراص مدمجة تحمل أسماء مثل " بودا بار" و"صالون اورينتال" و"اسيان لونج". هناك تآلف يتخطى الحدود يقع بين الموسيقى الإليكترونية والأكليشيهات حول العرب معطيا للمستمع إحساسا بالتواجد في الشرق. ولا ينزعج الزوار من كون ما بدا ظاهريا بأنه تقليدي ليس إلا عملية تحديث تمت على نحو مبسط، بل على العكس ينتابهم الشعور بأنهم في ظل مناخ عالمي.

ازداد في السنوات الأخيرة في لندن الاهتمام بالحضارة العربية، أو لنقل إن ذلك يبدو ظاهريا على الأقل. ففي كل حي من أحياء المدينة يوجد مقهى عربي أو لنقل أفضل مقهى أسبغ عليه الطراز العربي، حيث يجلس الشباب البريطاني مستندا على وسائد وثيرة مدخنا للنرجيلة ومستمتعا بالأنغام الغريبة. ففي أحياء مثل سوهو وهامستيد وفينزبيري بارك وهامرسميث تدعو تلك المقاهي للاسترخاء "من نوع آخر"، ومن أشهر تلك الأماكن "ميموز ريستو" في شارع هيدون و"كايرو كافي" في كلابهام نورث.

الرقص على أنغام النرجيلة

بازدياد الطلب يزداد العرض الخاص بالموسيقيين ومقدمي القطع الموسيقية (ديسكجوكي) ذات الطابع الشرقي، وبعضهم ينحدر من أصول عربية أو تركية. ربما كان من أنشطهم التركي نجمي جافلي.

يتفاخر نجمي وهو جالس في الشرفة الصغيرة لمنزله الواقع في شمال لندن بالنجاح الكبير الذي حققته جوقته المسماة "أوجامي" ومنوّع "ليالي النرجيلة" الذي تتألق فيه الأعمال الفنية للرواد المحليين والدوليين من حيث المزج بين فنون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من جانب والبيت والٍسامبليس من جانب آخر.

من أمثلتهم أيضا عبد العلي سليماني ويوسف وفانتازيا و نيلسون ديليشن من لندن وسمدج ودوأودي وغيرهم من القارة الأوروبية. يرفض جافلي الذي جاء من مدينة بودروم التركية إلى لندن عندما بلغ من العمر 18 عاما العيش منطويا في ظل الجالية التركية بل يحرص على المشاركة في الحياة المتعددة الثقافات في لندن.

يقول نجمي: "كان بوسعي أن أعزف أمام 5000 تركي من أتباع شتى المنظمات السياسية للجالية التركية، لكن البريطانيين لن يحضروا مثل هذه الحفلات، ورغم ذلك تتحدث الجالية كما لو كانت لها مشاركة في الأنشطة المتعلقة بالتعددية الحضارية. هذا الحال لا ينال اهتمامي".

يقول جافلي إنه رغم النجاح الذي حققه ما زال يواجه بحكم كونه موسيقيا مسلما عراقيل أكثر من الديسكجوكي الهنود على سبيل المثال. ويضيف قائلا:

"حتى الآن لا يفرّق الناس هنا بين الأفغان والعرب والأتراك"، لكنه من ناحية أخرى يكرس بنفسه هذه الصورة التعميمية القائمة من خلال جذبه لجمهوره الأوروبي في أغلبه عن طريق توزيع إعلانات تأخذ طابع الأكليشيهات العربية كتقديم عروض الرقص الشرقي وتدخين النرجيلة وإبراز الطربوش العثماني الأحمر. وإن اعترض جافلي على هذه الملاحظة بحجة أن عمله ليس بمثابة التقليد الرديء حيث أنه يعتمد على أصول حضارية تعود إلى الماضي التركي نفسه.

على سبيل المثال الطربوش. منع ارتداؤه في تركيا 1926 وفي مصر 1953 وأصبح استخدامه اليوم يقتصر على بعض الأزياء الفلكلورية في البلقان. أما في العالم العربي فلم يعد أحد يرتديه تقريبا خاصة في صفوف الشباب.

البريطانيون يعشقون الإكليشيهات

يقول كريم دلالي الذي يعزف في جوقتي "أوجامي" "وفانتازيا بيركيوشين" والذي أشرف على المبادرة الموسيقية الليلية "لاونج المفتول" في كنيسة سانت جايلز: "نحن نعيش هنا لا هناك". يعمل هذا المواطن الجزائري في مؤسسة مالية كبيرة في نايتس بريدج.

وعندما يلتقي به المرء في حانته المحببة الواقعة بالقرب من هايد بارك يراه جالسا فيها شاربا البيرة ومتحدثا مع هذا وذاك، فيبدو أن الجميع يعرفونه هناك. يقول دلالي إن الاهتمام بالحضارة العربية ازداد على شكل كبير خاصة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وهو لا يجد من الخطأ بمكان أن تساهم موسيقاه بإعطاء صورة غير واقعية عن العالم العربي حيث يقول:

"الأمر هو أن البريطانيين يعشقون الأكليشيهات. كما أننا نحن العرب أيضا نحمل في نفوسنا أكليشيهات حول الغرب". ويضيف بأنه وإن شعر بالفخر بكونه جزائريا إلا أنه يعي كونه مقيما في أوروبا:

"عندما يعيش المرء في المهجر فإنه يستخدم عناصر تجريبية نابعة من مسقط رأسه أكثر بكثير مما لو كان يعيش في موطنه. كما أنه لا وجود للرقابة على تلك الأعمال في إنكلترا. وبينما ينظر اليوم في العالم العربي إلى الرقص الشرقي على أنه مخل بالأخلاق فإن الغرب يعشقه ويعتبره شكلا من أشكال الفن. والإنكليز يعشقون رؤية بطن جذاب غريب يهتز على الأنغام. لدينا في "أوجامي" أيضا رجل يرقص الرقص الشرقي، وهذا أمر لا يمت بأدنى صلة إلى الأكليشيهات".

أما فيما يتعلق بالرسالة السياسية فإن موسيقيي لندن يتحفظون كثيرا إزاء ذلك على عكس الحال لدى فناني الراب الجزائريين في فرنسا والجزائر، حيث تطلق جوقتا "م.ب.إس" و"إنتك" رسالات واضحة للغاية في فضح التجاوزات وغيرها من الأوضاع السيئة.

طاهر الإدريسي من مجموعة "مو مو" الإنكليزية المغربية المشتركة لا يريد ببساطة أن تصبح السياسة محورا له طول العمر. وهو يجلس في مقهاه المفضل في شارع "هولووي رود" محتسيا شاي النعناع المغربي ومشيرا إلى "الفروق الشاسعة القائمة بين إنكلترا وفرنسا".

يقول حول ذلك " نحن نعزف أمام جمهور أوروبي في المقام الأول، أما في فرنسا فيقتصر جمهور فناني الراب على أبناء البلاد وحدهم. ونحن نرتدي هنا الزي المغربي، على عكس حال فناني الراب من الجزائريين الفرنسيين تماما. بالنسبة لهم الموسيقى هي المقياس أما الأزياء فلا تلعب دورا أبدا.

نيلسون ديليشن يعمل منذ سنوات عديدة كديسكجوكي ومنظما لحفلات الموسيقى الليلية مثل "أنوكا" و"صالون اورينتال" و"تاندوري سبيس" وقد حقق نجاحا كبيرا في الداخل والخارج. هذا الفنان الإنكليزي هو النجم الحقيقي وراء الأعمال الموسيقية ذات النمط البريطاني الآسيوي أو البريطاني العربي المشترك في لندن، وهو يقول:

"إنني مواطن بريطاني، لكن لدي جدا روسيا وجدا آخر يونانيا. وكون بشرتي بيضاء هو من قبيل الصدفة. هذا ويخلط ديليشن موسيقى الرقص الغربية بأنغام تقليدية من آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويكيّف هذا الخليط الفني حسب أنماط الأندية والمناسبات.

لا يلقى هذا الاهتمام بالموسيقى العربية في لندن صدى إيجابيا فقط، بل هناك من يسخر من ذلك كحال الموسيقي البريطاني الأسيوي ت.ج. رحمي الذي يقول: "هذه المشاهد العربية تنتج محض أنغام بغرض خلق رقعة حالمة وثيرة لجيل من أصدقاء الهيبي ممن يمتلكون بطاقات التسليف. فبلاد العرب ما زالت بمثابة حلم يتبادر إلى وجدان الغربيين".

بطبيعة الحال ليس العالم العربي على الإطلاق واحة حضارية منغلقة على نفسها وبعيدة للغاية ومتواجدة بموازاة الغرب. ففي المدن العربية الكبيرة مثل القاهرة وبيروت ودبي تهيمن موسيقى البوب ومحطات التلفزيون على الأجواء.

فمحطات التلفزيون تمد المنطقة العربية ومن خلال الأقمار الصناعية كل دول العالم بالمسلسلات الضحلة وفيديوهات موسيقى البوب وبالأخبار. والشباب خاصة تتوجه أنظارهم إلى الغرب ويتمتعون بالموسيقى العالمية ويغنون باللغة الإنكليزية. أما زوار مقاهي النرجيلة في لندن فلا ينظرون إلى الشرق إلا كظاهرة يرون أنها تختلف تماما عن الغرب، كما لو كان الشرق متنفسا للهروب من الحياة البريطانية اليومية الرتيبة وبديلا لعالم الأندية الغربية في لندن.

أهلا بكم في بيروت الصغيرة

أما في شارع إدغار رود، الشارع العربي الأصيل في لندن فلا يكاد يكون فيه وجود للبريطانيين. ففي ساعات الليل يكون هذا الشارع ملكا لأناس قادمين من الشرق الأوسط أو الأقصى، حيث يجلس اللبنانيون والعراقيون ورجال الأعمال الخليجيون في مقاهيهم المفضلة يدخنون النرجيلة.

مراد مزوز صاحب "ميموز ريستو" وأحد رواد أندية الموسيقى العربية في لندن من الأشخاص المحبوبين الذين يترددون على هذا الشارع. وهذا الجزائري هو من قلة العرب المستفيدين ماليا من التزايد الملحوظ في اهتمام الغرب ببلاد العرب لكنه لا يعيش منعزلا عن الجاليات العربية هناك.

وهو يصف شارع إدغار رود تحببا ب "بيروت الصغيرة داخل لندن". من ضمن الذين يعرضون فنونهم في ناديه شخصيات مرموقة مثل رشيد طه ومادونا. وهو يتضايق كثيرا من "المشاهد العربية الجديدة" في لندن:

"الكثيرون يحاولون كسب المال بأرخص الطرق". ومن أمثلة ذلك في نظره الأمريكي ليبيل ارك 21 الذي يبيع في الأسواق مقطوعات وأقراصا لفناني بوب عرب تكون فيها طريقة تصميم القرص والأسماء اللامعة للمغنين أكثر وزنا من المحتوى الموسيقي نفسه.

يقول مزوز إن هذه "الموضة العربية" تركز على غرابة الطابع لا على حضارة العرب ولا تكترث بتاتا بالإنسان العربي نفسه. ولا يلجأ مزوز في حفلاته إلى استخدام الأكليشيهات المتعلقة بالشرق. وسوف يفتتح قريبا ناديا تجريبيا للموسيقى الإليكترونية بهدف إعطاء دفعة جديدة لنمطه الجمالي الواقع بين عالمين مختلفين، وهو يأمل أن يحذو فنانون آخرون حذوه.

يحوّل مزوز العبارة المتداولة كثيرا "أنا عربي لكني أعيش هنا" إلى عبارة أخرى هي "إنني لا أرتدي أزياء فلكلورية، والرقص الشرقي هو للسياح فقط". أما حول التعددية الحضارية فلديه وجهة رأي واضحة: "لا يختص الأمر بالرغبات والتفاعلات فقط بل أيضا بالاعتراف بالأمر الواقع بما يحمل في ثناياه من جوانب إيجابية وسلبية معا".

في مقاهي لندن المحببة آنيا يتمتع الشباب البريطاني بحضارة "معرّبة" لكن دون وجود العرب أنفسهم، كما يعيش العرب في شارع إدغار رود دون وجود للمجتمع الغربي. ويبدو أن العرب وحضارتهم يشكلان أمرين مختلفين. فبينما دخلت عناصر من حضارتهم إلى دائرة الأندية الفنية المعاصرة يبقى العرب أنفسهم، وهذا أمر تتسم به بريطانيا، محصورين في الأطر المنغلقة وضمن مجتمع جالياتهم.

قال فنان الراب موش خان المنحدر من كشمير والمقيم في بريطانيا منذ بضعة أعوام معلقا على الحركة الموسيقية الآسيوية ذات الطابع غير التقليدي التي تلعب دورا كبيرا في الأندية الموسيقية للندن:

"الإنكليز يعشقون الموسيقى التي نعزفها، لكنهم لا يحبوننا كأناس". هل تسري هذه المقولة بصورة أكبر على الحضارة العربية خاصة؟ أم هل لحضارة أحياء الجاليات التي تتسم بها لندن ذلك التأثير الكبير مما يجعل حتى الأفراد المقيمين في مثل تلك الأحياء باقين فيها رغم وجود اهتمام لديهم بالحضارات الأخرى؟

بقلم توماس بوركتالر
حقوق الطبع توماس بوركتالر2005
ترجمة عارف حجاج
صدر المقال في مجلة التبادل الثقافي الصادرة عن معهد العلاقات الخارجية

توماس بوركتالر: إثنولوجي متخصص بالموسيقى يعمل صحفيا حرا لعدة جرائد ويدير مجلة إلكترونية www.norient.com