أخْتٌ وأخٌ، قراءة في رواية ألمانية

"أخت وأخ" هي أول رواية للكاتبة الألمانية الشابة أولا لينتسَهْ وتعكس التجربة الشرقية/ الهندية التي عاشتها الكاتبة. لا يتعلق الأمر بمذكرات سياحية أو يوميات صحفية، بل بنصّ مُركّب يطرح إشكالية العلاقة بين الغرب (ألمانيا) والشرق (الهند). مراجعة إسماعيل العثماني

أولا لينتسه، الصورة: لاريسا بندر
الكاتبة الألمانية الشابة أولا لينتسه

​​"أخت وأخ" هي أول رواية للكاتبة الألمانية الشابة أولا لينتسَهْ وتعكس بشكل كبير التجربة الشرقية/ الهندية التي عاشتها هذه الكاتبة الصاعدة. لا يتعلق الأمر بمذكرات سياحية أو يوميات صحفية، بل بنصّ مُركّب يطرح إشكالية العلاقة بين الغرب (ألمانيا) والشرق (الهند). مراجعة إسماعيل العثماني

لقد أنتجتْ ألمانيا منذ القرن التاسع عشر تخصيصاً أسماء كبرى ورصينة في حقل الدراسات المعتنية بالشرق (بما في ذلك العالم العربي والإسلامي) في إطار ما يُصطلح عليه بالاستشراق، الذي له، من الناحية الإيديولوجية والثقافية، ما له وعليه ما عليه.

وقد أسهم الاستشراق الموضوعي، الألماني وغيره، من خلال الدرس والبحث الجامعيين، في التقرّب من الآخر الشرقي، المختلِف عن الناظر الغربي؛ وبذلك أسهم في خلق حوار بين الحضارات الشرقية والغربية، الذي صار اليوم عنواناً مبتذلا في المنتديات والمحافل والمؤتمرات وعلى لسان رجال السياسة والاقتصاد وصفحات اليوميات والدوريات.

وبعد الآداب والعلوم الإنسانية، أيْ المجال الأكاديمي البحت، كان دور الإبداع الأدبي للخوض في موضوع العلاقة بين الغرب والشرق. ولكن هنا أيضاً لن تستويَ، على الصعيد الإيديولوجي، كتاباتُ كونرادْ أو نايْبول مع نصوص جان جينيهْ أو رواية الألمانية لينتسَهْ "أخت وأخ" التي نعرضها في هذا المقام.

تجارب شرقية

ولدت أوُلا لينْتسَهْ في مدينة مُونشنْغلادْباخْ عام 1973. درَست الفلسفة والموسيقى في كولونيا واستقرت لمدة عام ونصف في الهند. "أخت وأخ" هي أول رواية تكتبها لينتسَهْ وتعكس بشكل كبير التجربة الشرقية/ الهندية التي عاشتها هذه الكاتبة الصاعدة.

لا يتعلق الأمر بمذكرات سياحية أو يوميات صحفية، بل بنصّ مُركّب يطرح إشكالية العلاقة بين الغرب (ألمانيا) والشرق (الهند). وقد لقيت هذه الرواية، الصادرة عام 2003، قبولا واسعاً في الأوساط الأدبية والنقدية الألمانية حازت لينتسَهْ بموجبه على عدة جوائز. كما تمّ في الشهور الأخيرة (2005) نقل "أخت وأخ" إلى العربية بمجهود متواضع من المترجم السوري محمد جديد (دمشق، دار كنعان). وهي النسخة التي سنتبناها عند الإحالة.

تروي "أخت وأخ" قصة شابّ ألماني إسمه لوكاسْ سافر إلى الهند في زيارة سياحيّة. وسوف يتعرف هناك على راهب هندوسي سيؤثر فيه كثيراً حتى يتخلخلَ كيانه. ولدى رجوعه إلى ألمانيا والتحاقه بأسرته (المكوَّنة من أب وأمّ وأخت)، بعد عام من الغياب، يحكي لأخته مارْطا عن هذه التجربة "الروحية" التي عاشها في الهند، ولكن الأخت ستتعامل معها بلامبالاة كبيرة.إلى أن يسقط الشاب مريضاً ويفقد بصره جرّاء ذلك.

يبدأ الألم مع المرض فتجد الأخت نفسها مضطرة لرعاية أخيها الذي لا يرى الفرَج إلا في الرجوع إلى الهند، "إلى غُوا، إلى هناك، حيث بدأ كل شيء" (ص. 171) ومعاودة الاتصال بالراهب الهندوسي، خصوصاً بعدما استنتج الطبيب النفساني بأن مرضه نفسي ناتج عن عُصاب الانتقال من بيئة (غربية/ مادية)إلى أخرى (شرقية/ روحية).

ألمُ الأخ ومعاناة الأخت لا يتآخيان، بل يتقابلان ويتصارعان، في ازدواجية شخصانية تشخص ازدواجية المرء أمام ثقافة مغايرة للثقافة التي ترَعرع فيها، لأن المنطلق ليس مشتركاً. الأخ يؤمن بأن الهند ستُنهي ألمَه، والأخت ترى في الهند ألمَها الخاص، لأنها، عكس أخيها، لا تؤمن بتلك الروحانيات. إنها رحلة شاقة وحافلة بالمخاطر العملية (متاعب السفر وأخطاره) والروحية لأنها لا تحمل أي ضمانات لإعادة السعادة إلى الأخ.

لقاء الحضارات

أما من الناحية التحليلية، فتستوقفنا بالدرجة الأولى خطة لينتسَهْ لنقل الصدام/ الحوار الثقافي الذي يختلج داخل الإنسان عند التقاء ثقافته بثقافة مغايرة بشكل كبير. ومن خلال الأخت والأخ يُطرح هذا اللقاء/ الالتقاء الحضاري وتنْطرح حِوارية متواصلة تتعمق مع تقدم الرواية ولا تنقطع، فيكتشف القارئ من ورائها عالميْن مختلفين، بل متباينيْن جلّ الوقت، لا يتقاطعان رغم العلاقة العضوية (الدموية) بين الأخت وأخيها.

هذه الرحلة تجسد في الواقع العلاقة بين الشرق والغرب (بالمفهوم الحضاري والإيديولوجي)، بين عالم متخلف أو متنامٍ مادياً وشبه فوضوي (بالمعايير الغربية) في تعامُله مع الزمن والوقائع، ينساب بعاطفة جياشة وراء المعتقدات المجردة (خرافات، أساطير، أصنام، إلخ) التي لا تمت إلى العقل بصلة، وعالم متقدم ومتطور مادياً ومنضبط منهجياً، لا يؤمن سوى بالمحْسوسات ولا يستسيغ إلا ما هو عقلاني وقابل للتجريب، لأن المرء في الغرب "يطلع على كل شيء من الكتب" (ص. 129).

في الواقع، رحلة الألمانييْن مارطا وأخيها لوكاسْ هي ذريعة أدبية توظفها لينتسَهْ لخلق حوار شيق وعميق بين وجهات نظر مختلفة في تقابل طبيعي وغير منتظم بين قناعات مختلفة ونظرات متباينة إلى الكون. الاختلاف حول الغرب والشرق، انطلاقاً من الشرق أو الغرب، قد يحدث بين الشرق والغرب، أو حتى داخل الشرق أو الغرب.

ويتجلى ذلك تخصيصاً بعدما ينضم إلى الثنائي الألماني الهندي فيغو ويصير الحوار ثلاثياً يتعمق مع توالي الصفحات وتقدُّم رحلة عودة لوكاس إلى عالم بهرَه ورحلة اكتشاف مارطا لعالم جاءتْ إليه بأحكام قبْليّة.

رواية مكتوبة بتلقائية

في هذا المنظار، يمكن اعتبار "أخت وأخ" بمثابة دعوة مفتوحة للقارئ لتأمل العلائق الكائنة بين الجسد والروح، بين المادي والروحاني، بين المرئي والماورائي، بين المُسَلمات والخرافات، بين الإيمان والإلحاد، بين ثقافة الكتب وثقافة العامة، وما إليها من علائق بارزة أضحت اليوم تستأثر بالخطاب في حقل السياسة والدِّراسات الأنثروبولوجية والثقافية.

الاستشراق والحوار بين الحضارات والأديان موضوعان مطروحان بإلحاح في الرواية، ولكن بأسلوب سردي بديع يتبنى التلميح والسخرية والتساؤل فلا يسقط في الإنشائية والتصريح بأيّ شكل من الأشكال.

"أخت وأخ" رواية لا تخفي كونها بكراً، تعكس قلق القلم المبتدئ في عالم الإبداع. إلا أن نضج الأفكار وقوتها لا شك أنها قد عوضت عن أي قصور ورَد في الرواية من الناحية الأدبية أو الكتابة السردية بمعناها الواسع. إنها رواية تؤسس لخطاب ثقافي يشيد بالانفتاح على الآخر وبالاختلاف بدل التطابق. فعلى المرء أن يرحل، أن يسافر نحو الآخر قبل أن يحكم عليه بما لديه من معرفة ضيقة انطلاقاً من نقطة ثابتة.

مهما يكن، وجب التأكيد على أن "أخت وأخ" ليست إنشاءً جدالياً تسطيحيّاً يعرّض القارئ للملل أو الإجهاد، بل رواية مكتوبة بتلقائية وشاعرية كبيرتين، في أسلوب سريع الوتيرة ينتبه للأصوات والمشاهد والمجازات عند النقل أو التصوير أو التبنّي، لتحكي قصة إنسانية مُمتِعة في فضاء حواري يمتزج فيه الغريب والعجيب بالألم والحزن، والحزن والمعاناة بالسخرية والضحك، والضحك والمألوف بالقلق والمجهول، لدى الناظر والمنظور إليه معاً.

ولو اضطررنا في ختام عرضنا للاختزال لقلنا إن "أخت وأخ" عبارة عن رحلة شاقة وشيّقة من الغرب إلى الشرق في الظاهر، ومن الإيمان إلى الإيمان في الباطن.

إسماعيل العثماني جامعة محمد الخامس، الرباط
حقوق الطبع فكر وفن 2006

قنطرة

التبادل الأدبي العربي-الألماني
يعتبر الأدب دوما أحد الوسائل الرئيسية في حوار الحضارات، وغالبا ما يتمثل هذا في شكل أنشطة صغيرة تعمل في الخفاء، المترجم والناشر مثلا اللذان يعيشان على حافة الكفاف، ويقتاتان من العمل في التعريف بالثقافة الغريبة المحبوبة. ونقدم هنا مبادرات ألمانية وعربية.

www

يوميات الكاتبة أولا لينتسه في دمشق

فكر وفن