عودة الموتى إلى بغداد العراق

الروائي والأديب العراقي خضير فليح الزيدي Foto Privat Der irakische Schriftsteller KhDayyer FleeH Azzaydiyy bzw Khudair Falih Al-Zaidi Foto Privat
الروائي والأديب العراقي خضيِّر فليح الزيدي يروي لموقع قنطرة تفاصيل عن روايته وعن أسباب إعادة الروائي الراحل غائب (الموتى) إلى بغداد مرة أخرى، وأحلام البغداديين اليوم، وما الذي حل بالمدينة والرواية العراقية في السنوات الأخيرة. Foto Privat

تدور أحداث رواية "بنات غائب طعمة فرمان" حول عودة الروائي غائب فرمان -المتوفى سنة 1990- إلى بغداد سنة 2006، بهدف تحرير أبطال رواياته من واقع العراق البائس. ومع عودة الموتى إلى بغداد نكتشف صورة عن تغيرات بغداد مغايرة للصورة التي عاشوها قبل رحيلهم. محمد تركي الربيعو حاور الكاتب لموقع قنطرة.

By  محمد تركي الربيعو

في أيامنا هذه يُعدُّ الخروج من أي مدينة من مدن العراق بمثابة فرصة لبدء حياة جديدة بعيداً عن الفوضى وعدم الاستقرار الذي يعيشه هذا البلد منذ سنوات. لكن أن يعود أحدهم إلى هذه المدن بعد الفرار منها، فهذا بمثابة جنون، خاصة وأنّ داء الحنين للمدن غالباً ما يصطدم بواقع مر.

مع ذلك يقرر الروائي العراقي خضير فليح الزيدي في روايته (بنات غائب فرمان طعمة)، إعادة الروائي العراقي الراحل غائب طعمة (1927_1990) لزيارة متخيلة لبغداد، وذلك بعد سنوات طويلة من غيابه ووفاته بعيداً عنها. 

غائب ونخلة بغداد

غادر الروائي غائب بغداد في الستينيات تقريبا، ولم تُكتب له العودة لها سوى مرة واحدة، ولفترة بسيطة. وخلال وجوده في الاتحاد السوفيتي بدأ يعتقد أنّ الرواية تصلح لتكون عالماً موازياً بأبطالها لعالم المؤرخين.

 أخذ يعمل على التأريخ لمدينة بغداد وذاكرته عنها، والتي بقي يعيش هاجسها طوال الوقت. وهذا ما بدا من خلال عدة روايات منها (النخلة والجيران) و(ظلال على النوافذ)، والتي تمكّن عبرها من تقريبنا أكثر من الحياة الشعبية البغدادية وتحولاتها منذ الحرب العالمية الثانية حتى السبعينيات. صنع غائب وهو يكتب عن بغداد عدة أبطال على الورق ومنهم (حماد العربنجي وحسين ابن سليمة والخالة نشمية وأسومة العرجاء في النخلة والجيران). 

اختار الزيدي أن يكون موعد عودة غائب إلى بغداد عام 2006، وهو العام الذي اندلعت فيه حرب أهلية طائفية في العراق، وأودت بحياة عشرات الآلاف. وقد يخال للقارئ أنّ فرمان عاد في رحلة الزيدي المتخيلة للكتابة عن المدينة وأهلها بعد الغزو الأميركي للعراق، وما عرفته من تغيرات عنيفة شملت المكان والذاكرة والناس. لكننا سرعان ما نكتشف أننا أمام لعبة سردية ماكرة. فغائب عاد هذه المرة لسبب آخر، وهو إنقاذ أبطاله الذين صنعهم في رواياته من المدينة التي تحولت بعد الحرب إلى ما يشبه حوض أسماك يأكل بعضها بعضاً إلى ما لا نهاية.

الغلاف العربي لرواية خضيِّر فليح الزيدي "بنات غائب طعمة فرمان"  Roman Cover - Die Töchter von Ghaib Touma Farman des irakischen Schriftstellers KhDayyer FleeH Azzaydiyy
غلاف رواية خضيِّر فليح الزيدي "بنات غائب طعمة فرمان": عودة الروائي غائب طعمة فرمان من قبره إلى بغداد هي عودة افتراضية-متخيلة تخدم ما ذهبت له فكرة رواية "بنات غائب طعمة فرمان" ليس من أجل مقارنة عالمين مختلفين، بل من أجل أن تتحرر من سجن الورق كي تنطلق إلى الحياة الحقيقية. هي بمثابة عودة الغائب المنتظر كان الغرض منها تحقيق الحلم المدفون في زيارة أخيرة إلى بغداد وفي عام الاحتراب الطائفي 2006. Bild Roman-Cover

عودة الأموات إلى بغداد

يروي لنا الروائي العراقي خضير فليح الزيدي في مقابلته مع موقع قنطرة، تفاصيل عن روايته، وعن أسباب إعادة الروائي الراحل غائب (الموتى) إلى بغداد مرة أخرى، وأحلام البغداديين اليوم، وما الذي حل بالمدينة والرواية العراقية في السنوات الأخيرة. 

- دعني أبدأ من فكرة الرواية. لماذا قرّرتَ إعادة غائب فرمان طعمة مرة أخرى إلى بغداد؟ هل هي محاولة لإجراء مقارنة بين بغداد الخمسينيات والستينيات التي كتب عنها، وبغداد اليوم. أم أن هناك أسباباً أخرى؟

خضير الزيدي: إنّ الروائي الفذ غائب طعمة فرمان هو رائد الرواية الفنيّة العراقية من دون منازع ولا اختلاف على الرأي. وهو أيضا من الكتّاب القلائل في العالم الذي يستحضر مدينته الأولى في مجمل رواياته حتى في منفاه. كأنه مريض بمرض يدعى "عقدة بغداد" المدينة والجذر الأول التي لا شفاء منها. غائب فرمان لا يقل شأناً عن نجيب محفوظ، ولكنه أقل حظّا منه، وهو أيضا لا يهتم كثيرا بشهرته وكيف يروّج لها. مدينة بغداد التي ما انفكّ يرسم صورتها في أحلامه وهو في المهجر ومن منفى إلى منفى وليس في حقيبة الاغتراب سوى صور بالأبيض والأسود لمدينته الأولى. كانت بغداد تحاصره في الذاكرة كي تسجنه في داخل أسوارها وأزقتها ودرابينها الضيقة. هي أيضا يوتوبيا المدينة الآسرة وتلك بغداد بأمكنتها العتيقة وشخصيات القاع الشعبية بكل ما تحمله من تناقضات ومشاعر متضاربة وأحلام مؤجلة على مر السنين والتي جاءت في رواياته ومن أجلها عاد إليها يدفعه الحنين. لم يحقق شهرته عربيا ككاتب رائد وبارع في فنون السرد بما يكفي والأسباب كثر، لكنه حقّق شهرة عراقية عظيمة لم ينازعه عليها أي كاتب آخر.

إن عودة غائب الروائي إلى بغداد هي عودة افتراضية-متخيلة تخدم ما ذهبت له فكرة رواية "بنات غائب طعمة فرمان" ليس من أجل مقارنة عالمين مختلفين، بل من أجل غاية أخرى هي مناشدة شخصيات رواياته له بوصفه خالقها. كانت تطالبه بتحررها من سجن الورق. هي دعوة ونداء عاجل لتحريرها من سجن ورق الروايات الأصفر والانطلاق إلى الحياة الحقيقية. هي بمثابة عودة الغائب المنتظر كان الغرض منها تحقيق الحلم المدفون في زيارة أخيرة إلى بغداد وفي عام الاحتراب الطائفي 2006. فكيف يجد ويتعامل مع  مدينته الأولى "المربعة"؟ الحي الذي كتب عنه أجمل رواياته وهي رواية "النخلة والجيران". 

Here you can access external content. Click to view.

- ربما سيقول أحدهم، لماذا قرّر خضّير فليح الزيدي اللجوء إلى هذه اللعبة -استعادة الموتى- وإعادتهم للمدينة الأولى التي كتبوا عنها، بدلا من اختيار شخصية بغدادية أخرى تروي لنا ما جرى في المدينة؟ ألسنا قادرين على تفسير واقعنا بأنفسنا؟ ألا تعتقد أن جزءا من أزمة العراق والمنطقة عموما هو استحضار الأموات والماضي وزجّهم في معركة الحاضر؟

الزيدي: على المستوى الشخصي أنا أؤمن أنّ الرواية الحديثة الجيدة تنجح إلى حد مقبول في قوة الفن المناسب لها وبراعة إجادة اللعبة السردية، مع علو هذه اللعبة الفنيّة الماكرة والمخادعة في خلق الفجوات الدرامية، كي تتناغم مع ما يصبو إليه قارئ اليوم. فواحدة من أمهر اللعب السردية هي لعبة استحضار وبعث الموتى والتعامل معهم بروح العصر. ستؤدي حتما -يحسب ما أعتقد- إلى معرفة ما يجري في عالم اليوم والغد من خلال منظار الماضي. للموتى من العباقرة الكبار رؤى خاصة بهم لإدراك الأمكنة والشخصيات ووحدة الزمن. على سبيل المثال، إنّ اشتغالات الروائي غالب طعمة فرمان الروائية لها أبعاد فنية غاية في البراعة وبرؤى مذهلة تتناسب مع كل العصور. إن ما حدث له من ظلم وحيف ونسيان يجعلني ككاتب أفكر بمصيري الشخصي من بعده. فالكاتب يموت حينما يُنْسَى ولا تتذكره الأجيال.

- في إحدى محطات الرواية تتحدث عن الأحلام، وكيف أن الحلم يصبح أحيانا بمثابة نعمة للتعويض عن الواقع؟ أما يزال البغداديون يحلمون؟ وما هي الأحلام التي تراود خضيّر فليح الزيدي عن بغداد؟

الزيدي: إن العيش في مدينة بغداد لكاتب مثلي وفي يومنا هو عيش استثنائي، وغالبا ما تكون مساحة الحلم هي الغالبة التي تزيح شبح الواقع الثقيل. هذا الواقع هو محض مأساة دائمة الظهور، لذلك يكون الحلم هو المعادل الموضوعي للبقاء. الحلم وحده من يجعلنا نواصل العيش في مدينة كلما احتضرت أو اختنقت من العنف الدامي انبثقت من رمادها من جديد من خلال الرواية أو الفن. هكذا فكرة سوداوية جعلتني ابني رواية استحضار الغائب حيث تكون مساحات المتخيل السردي هي الطاغية في مجمل الأحداث. فالغائب "غائب طعمة فرمان" يحضر إلى مجلس العزاء على روحه ليجد في استقباله معظم الشخصيات الروائية، إذ تخرج من الورق لتعيش لحظات وهي تستقبل المعزين بمن فيهم خالقها "غائب طعمة فرمان" لتنتهي الرواية بمحاكمة غرائبية بين شخصيات رواياته والكاتب للبحث عن خالق أرضي أكثر فهما لحالها. كي يمنحها حرية الاختيار بين سجن الورق أو العيش في واقع زائف وعنيف.

الروائي والأديب العراقي خضير فليح الزيدي Der irakische Schriftsteller KhDayyer FleeH Azzaydiyy bzw Khudair Falih Al-Zaidi Foto Privat
خضيِّر فليح الزيدي: روائي وقاص عراقي. له العديد من الروايات والكتب حول التاريخ الثقافي والاجتماعي للعراق في العقود الأخيرة. يقول: هل سيأتي اليوم الذي ينبثق فيه أحد الكتّاب ليكتب رواية عن عودة الزيدي إلى الحياة بالطريقة التي استحضرتُ بها غائب طعمة فرمان. ربما هذا هو السؤال والحلم البعيد. ولكنه قابل للحدوث مجددا. Foto Privat

الرواية البغدادية

- ماذا لو قرر أحدهم بعد سنوات طويلة إعادة خضير فليح الزيدي وبناته (رواياته) إلى بغداد؟ من هي الشخصية التي ربما سترغب بتغيير مصيرها؟

الزيدي: هذا السؤال راودني كثيرا في أثناء كتابة الرواية. هل سيأتي اليوم الذي ينبثق فيه أحد الكتّاب ليكتب رواية عن عودة الزيدي إلى الحياة بالطريقة التي استحضرتُ بها غائب طعمة فرمان. ربما هذا هو السؤال والحلم البعيد. ولكنه قابل للحدوث مجددا. في الرواية ثمة شخصيات رئيسة دلال/ الغائب/ المحامي جبر الشوك/ هاني بارت المثقف الصعلوك، كل شخصية منحوتة بدقة إزميل النحّات، ولكن أقربها إلى نفسي هو هاني بارت المثقف الضحية لدلال البنت الهابطة من طبقتها المخملية. تغويه وتقرّبه منها ثم ترفسه بقدمها. هذا الصراع الخفي بين الطبقة الأرستقراطية صانعة الملوك وهي تتحكم بخيوط السلطة وتنظر شزراً إلى الطبقة الفقيرة من قاع المجتمع. هذا الصراع الخفي هو من أعطى للرواية قوة عنصر التشويق لقارئ اليوم.

Here you can access external content. Click to view.

- تشير في إحدى الحوارات بين دلال وهاني بارت المثقف إلى تحولات الرواية البغدادية. على ماذا تركّز الرواية البغدادية اليوم؟ ومن هم أبطالها؟

الزيدي: شهدت الرواية العراقية المعاصرة تطورا لافتا في السنوات العشر الأخيرة، هذا الأمر لا يختلف عليه اثنان من الدارسين لتاريخ الرواية العراقية والعربية. ولكنها ما زالت تعاني من فجوات وتأثيرات كتّابها بعضهم على بعض، الأمر الذي يعرقل تلك النهضة المنطلقة بقوة. هناك في العراق مئات الكتّاب وقلّة منهم يدركون اللعبة الروائية ويجيدون اللعب بها بكل براعة. 

إنّ تحولات الرواية مرّت بمراحل إسقاطات الواقع: فمن رواية الانتقام من الدكتاتورية بانفعال طاغٍ إلى رواية المفخخات والعنف الديني ثم إلى رواية اللعب على ثيمة الأقليات والأعراق ثم تجريب موجة أخرى بروايات المخطوطات التي يعثر عليها البطل لتطغي موجة "الميتاسرد" وغيرها حتى تستقر إلى رواية الدرس النخبوي أو ما يُسمّى برواية المثقف. وفي السنوات القليلة بدت ملامح رواية عراقية خالصة بركائز ثابتة غير تقليدية متخلصة من أعطاب كثيرة.

 

حاوره: محمد تركي الربيعو

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

Qantara.de/ar

 

خضيِّر فليح الزيدي: روائي وقاص عراقي. له العديد من الروايات والكتب حول التاريخ الثقافي والاجتماعي للعراق في العقود الأخيرة. من كتبه: "شاي وخبز: حكايات البيت والأزياء والطعام في العراق".

Here you can access external content. Click to view.