أين أصحاب الفكر المتزن؟

حينما نشرت جريدة دانمركية رسوما كاريكاتيرية للنبي محمد لم يكن أحد يتوقع لها أن تثير مثل هذه الضجة العارمة. فقد اعتبرها المسلمون المتشددون إهانة فيما تشبث الغربيون بحرية الصحافة. أيمن مزيك يلقي الضوء على الحقائق الكامنة وراء هذا التصعيد.

مسلمون في لندن يتظاهرون احتجاجا على الرسوم الكاريكاتورية ، الصورة: أ ب
يأتي الجدل الدائر في مرحلة يسودها تداع كبير في الأجواء الراهنة في أوروبا حيال المهاجرين ولا سيما المسلمين منهم.

​​حينما نشرت إحدى الجرائد الدانمركية قبل شهور رسوما كاريكاتيرية للنبي محمد لم يكن أحد يتوقع لها أن تثير مثل هذه الضجة العارمة التي تجتاح الآن العالم الإسلامي كله. فقد اعتبرها المسلمون المتشددون إهانة مقصودة فيما تشبث الغربيون بفكرة حرية الصحافة. أيمن مزيك أيمن مزيك يلقي الضوء على الحقائق الكامنة وراء هذا التصعيد.

رسوم الكاريكاتور المنشورة في جريدة دانمركية ظهرت على نفس وتيرة أنشودة الأطفال المشهورة "القهوة، لا تشرب المزيد من القهوة، فهذا المشروب التركي لا يصلح للأطفال، إنه يوهن الأعصاب ويضفي عليك الشحوب وأسباب المرض. لا تكن مثل المسلمين الذين لا يستطيعون الكف عن شرب القهوة". هذه الرسوم تتضمن الإهانة والتجريح وتعكس أحكاما مسبقة قائمة منذ قرون عديدة.

رسوم الكاريكاتور المذكورة تسخّر بالإضافة إلى ذلك كليشيهات قديمة معروفة فحواها أن الإسلام مهيأ للعنف بحكم جذوره الأصلية وأنه قديم متآكل البنية وهمجي التوجه. وقد عرفنا مثل هذا النمط القذفي لصورة الإنسان من خلال الطريقة التي عرضت فيها صورة اليهود في مطلع القرن المنصرم.

يأتي الجدل الدائر في مرحلة يسودها تداع كبير في الأجواء الراهنة في أوروبا حيال المهاجرين ولا سيما المسلمين منهم. فهناك مظاهر صارخة للتمييز يتم من خلالها مرارا إظهار الإسلام بكامله كما لو كان "دينا إرهابيا"، الأمر الذي دلت عليه مؤخرا تصريحات صادرة عن سياسيين دانمركيين من ذوي النزعات اليمينية.

في أغلب الأحيان تغفل الحكومات المعنية النظر عن تلك التصريحات ويرافق ذلك غياب سياسة بناءة تجاه الأقليات المسلمة لدى أغلب الحكومات مما يفرز كما رأينا مؤخرا تداعيات خطيرة في بعض الحالات.

تأجيج الصراع

دعونا نعترف بأننا كلنا لم نتوقع أن يكون حجم الاحتجاج وحدته في العالم الإسلامي على هذا القدر الكبير. ويبدو أن المختصين باحتواء هذه الأزمة في أوساط الحكومة الدانمركية قد أخفقوا في تبوء هذه المهمة وفي رؤية الأمور بوضوح.

أما البلدان العربية فقد فرضت حظرا على استيراد السلع الدانمركية واستدعي سفراء هذه الدولة إلى وزارات الخارجية فيما امتنعت فجأة شرائح سكانية بكاملها عن شراء المنتجات الدانمركية. ونجم عن ذلك تعرض المجتمع الدانمركي إلى هجمات حادة لم تكن ذات طبيعة حضارية بل اقتصادية.

فأصبحت فرص عمل عديدة عرضة للانهيار كما تداعت في بحر ليلة وضحاها أنشطة تجارية لمؤسسات دانمركية تعمل في السعودية مثلا بعد أن دامت لسنين طويلة وكانت حافلة بالثقة. لهذا فقد حث الاقتصاد الدانمركي رئيس الحكومة راسموسن بإلحاح على تقديم اعتذار عن نشر رسوم الكاريكاتور. لكن هذه الصورة باتت الآن راسخة تماما في أذهان الأوروبيين.

بدلا من اللجوء إلى سياسة مبنية على احتواء التصعيد بهدف تهدئة النفوس دخلت جولة جديدة من الخلاف إلى حيز الوجود. فالمعقبون في كلا الطرفين ما زالوا يصعدون حدة توتر الأجواء ويستعدون لتقديم أدلة ثاقبة تكرس صحة النظرية المتعلقة بصراع الحضارات التي رسخت منذ وقت طويل في أعماق نفوسهم.

هناك تسخير لهذا الجدل الدائر كما أن العديد من الإعلاميين يتصرفون كما لو كانوا في خضم "معركة" هدفها الدفاع عن حرية الصحافة.

أما في الجانب الآخر فإن العالم الإسلامي بدأ يتيقن من صحة النظرة الشائعة في كل أطرافه والمتضمنة وصم أوروبا بالتجديف والتطاول على الله وبانتشار عقدة الخوف والكراهية لديها تجاه الإسلام. وهذا ما دفعه الآن إلى الاعتقاد بضرورة تلقين أوروبا درسا يكون بمثابة "عبرة" لها.

لم يعد النقاش الدائر حول أسباب هذا النزاع ومؤثراته يلعب إلا دورا محض هامشي، فيما هيمنت الأحاسيس الانفعالية والأحكام المسبقة على الأجواء، وبات كل من الطرفين يظهر للطرف الآخر بأنه يملك رؤية أفضل ويسعى إلى فرضها عليه فرضا، والأدهى من ذلك أن الطرفين يدركان الخلاف الدائر كما لو كان صراعا حول الحضارة.

تصورات أحادية الجانب

لكن الحوار بين الحضارات لا يمكن أن يجري على نحو هدام وعلى قاعدة محض الدفاع عن تصورات أحادية الجانب.

في هذا السياق من الضروري القول إن نقد الدين أمر طبيعي كما أن نقد أتباع دين ما مسألة حتمية إذا اقتضت الحاجة إلى ذلك. عرض رسوم للنبي أو عدم عرضها لم يعد منذ وقت طويل هو الموضوع المطروح في حد ذاته.

لكن هل يعني الحق في ممارسة حرية الرأي بشكل تلقائي التجديف والتطاول على الله وتكريس الأحكام المسبقة القائمة؟ وهل استراتيجية الاستفزاز هي الوسيلة الأسلوبية الوحيدة التي علينا أن نتصورها في إطار إجراء حوار نقدي مع المسلمين في المستقبل؟

هناك استغلال ماهر في أوروبا للاستياء المهيمن على العالم الإسلامي نتيجة لرسوم الكاريكاتور، حيث يتم تفسير هذا الاستياء كمؤشر على النية في محاربة حرية الصحافة. دعونا هنا نستنتج عابرا بكون التعبير عن الاستياء يشكل جزءا من حقوق الإنسان.

لكن على الجميع أن يرفضوا ويدينوا بطبيعة الحال وبشدة الغوغائية وأساليب التهديد التي تلجأ إليها عناصر مسلمة شرسة ومهيأة لاستخدام العنف. لكن الملاحظ أن قنوات التلفزيون تعطينا صورة مضخمة عن وزن هذه الفئات وتخلق الانطباع بأن هناك جمعا من العصابات الصاخبة تقف أمام أبواب أوروبا استعدادا للقيام بإلغاء حرية الصحافة فيها. لكن هذه الصورة لا تتمشى مع الوقائع الراهنة.

فمجتمعات تلك الدول لا يسودها حنين أقوى من الأمل في التمتع بالمبادئ التي تقوم عليها دولة القانون وحرية الصحافة والتي تكاد أن تكون معدومة في بلاد تلك المجتمعات.

ولو ألقينا نظرة على القانون الأساسي (الدستور) الألماني لاتضحت لنا براعة التوافق الوارد فيه بين حرية الصحافة واحترام الأديان حيث أن تكريس أحد هذين المبدأين لا يتعارض مع وجود المبدأ الآخر.

أما الآن فهناك أشخاص افتعلوا جبهات صراع وأوجدوا على نحو مصطنع تعارضا بين هذين المبدأين. وهناك منتصرون في تلك المعركة وهم أنصار هانتينغتون (مؤلف كتاب "صراع الحضارات") في كلا الجانبين. من هنا تطلب الأمر توجيه السؤال التالي : أين أصحاب العقل والمنطق، أين أصحاب الفكر المتزن؟

بقلم أيمن مزيك
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2006

أيمن مزيك رئيس تحرير المجلة الإلكترونية islam.de ونائب رئيس مجلس إدارة جمعية الخوذ الخضر الخيرية والمتحدث الرسمي السابق للمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا.

قنطرة

ردود الفعل الكاريكاتوريّة على الرّسوم الكاريكاتوريّة
من يسيء حقّا إلى الإسلام: الرّسّام الدانماركي الذي رسم الكاريكاتور، أم ردود الفعل التي تطالب بإعادة بوليس الفكر ومحاكم التّفتيش؟ تتساءل رجاء بن سلامة في تعليقها التالي.

قنبلة في عمامة
ثمة سؤال يستدعي الإجابة بعد أن نشرت إحدى الصحف الدانماركية كاريكاتورا يطال النبي محمد: هل يجوز أن تبقى حقوق من نوع حرية الصحافة والتعبير بلا قيود وأن لا تعامل بالمثل على غرار حريات أخرى التي تنتهي عند حدود حرية الآخرين؟ تعليق بقلم بيتر فيليب.

أكثر من مجرد التطرق إلى مشكلة الكاريكاتور!
مناقشات حول رسوم الكاريكاتور للنبي محمد أو العداء ضد الأجانب أو الحياة اليومية للأقلية المسلمة – هذه المواضيع لا تتطرق إليها وسائل الإعلام الأوربية فحسب، بل أصبحت جزء من اهتمامات الصحفيين العرب أيضا. تقرير غوتس نوردبرو